اذا اتفقنا على ان «الشأن العام» جزء من مقاصد الدين، فما الذي حصل حتى اقتنع هؤلاء «المتدينون» بأن لا يتدخلوا في العمل من اجل الحياة، هل المشكلة في جمهور «المتدينين» أم في اصحاب الاسلام الحركي وجماعاته أم في الطرفين معاً وفي البيئة المحيطة بهما ايضاً؟.
لدي ثلاثة اسباب اعتقد انها تدفع الجمهور المتدين، على اختلاف فئاته العمرية والتعليمية والمهنية.. ، الى حصر وظيفة العبادة التي يمارسونها في العلاقة بينهم وبين الله تعالى في المجال الخاص فقط ، وعدم الاقتراب من «الشأن» العام ، بل اعتباره «مضراً» بالعبادة واحياناً رجساً من عمل «الشيطان».
السبب الأول يرتبط بمفهوم «التدين» الذي استقر لدى اغلبية المسلمين نتيجة تجربة تاريخية وتراث تراكم على مدى قرون، حيث يعتقد كثير من «المتدينين» ان وظيفة الدين هي تحقيق الخلاص الفردي، وان اولوياته تقتصر على اداء العبادات المفروضة والالتزام بالاخلاقيات المطلوبة، ووفق ذلك يتحول «التدين» الى حالة فردية مكانها المسجد فقط، ومداها لا يتجاوز «دائرة» صغيرة من الاهتمامات والمسؤوليات الاجتماعية فيما يبدو العمل العام من اجل شؤون الناس خارج هذه الدائرة تماماً، كما يبدو المنشغلون بها مجرد «اشخاص» مختلف عليهم لكنهم - في كل حال - لا يمثلون «الاسلام» وان كانوا يجتهدون داخله، فهم «رجال سياسة» وليسوا «رجال دين».
السبب الثاني يعود الى «فشل» الحركات الاسلامية العاملة في المجال العام باقناع هذا الجمهور المتدين بأن اقامة شؤون الحياة جزء من الدين، وبأن مقاصد الاسلام تتجاوز الشأن الخاص الى المجال العام، وبأن اولويات الحرية والعدالة والكرامة تتقدم على عناوين «خلاص الفرد» ورفاهيته واستقراره، والفشل هذا يتعلق بمسألتين: احداهما على صعيد الخطاب، حيث ما زالت «فكرة» السياسة وكذلك الدولة والحكم «ضامرة» تماماً في فكرنا الاسلامي، وهي موجودة في الادبيات الاسلامية لا في كتب الفقه ولا في الدعوة، صحيح اننا بدأنا نسمع عن خطاب جديد تحت لافتة «السياسة الشرعية» لكن ما زالت كثير من الاسئلة حول «السياسة» في الاسلام معلقة ولم تحسم الاجابات عنها.
أما المسألة الاخرى فتتعلق بفشل بعض التجارب الاسلامية في الحكم، مما اعطى انطباعاً لدى الجمهور المتدين بأن هؤلاء مثل غيرهم، وبأنهم لم يفهموا الدين لكي يمارسوه على أرض الواقع، فيما رأى آخرون ان الافضل للدين ان يبتعد عن السياسة.
أما السبب الثالث فيتعلق «بالبيئة» المحيطة، سواء أكانت على السلطة أو خصوم المشروع الاسلامي أو «ارساليات» الاجنبي أو العوامل السياسية والاقتصادية التي عملت - جميعها - على تخويف «المجتمع» من الاسلام المتحرك النشط، وعلى استخدامه «كمسطرة» للحكم على قبول الولاءات أو رفضها، وتوزيع المكتسبات أو منعها، ولهذا ابتعد بعض جمهور «المتدينين» عن هذه «الساحة» المفخخة، وآثروا ان «يعبدوا» الله ويتقربوا اليه في مجالات أخرى، فيما اقتنع غيرهم من «المتدينين» بخطاب «البيئة» التي تعمل في هذا الاتجاه .
هذه الاسباب والعوامل وغيرها اجتمعت وشكلت حالة «انقسام» وسط جمهور «المتدينين» وبالتالي اصبحنا امام نمطين من أنماط التدين يصعب فك الاشتباك بينهما، كما يصعب الجزم بصحة أحدهما وخطأ الآخر.