بقدر ما سعت إسرائيل إلى حصر "حل" الصراع الفلسطيني/الإسرائيلي، بين الطرفين وبرعاية أميركية منحازة لها بالطبع، بقدر ما فشلت في فرض الاستسلام على الشعب الفلسطيني وقيادته الوطنية، لذا فإن المراقب لحالة الشد السياسي بين الطرفين، والتي صارت مثل خيط مشدود إلى آخره، لدرجة يمكن القول معها، بأنها قاب قوسين أو أدنى من القطع، لولا تعقل القيادة الفلسطينية، يمكنه أن يتوقع بأنه بقدر ما سعت إسرائيل إلى إعداد "طبخة" الحل بعيداً عن أعين الملأ، لتخرج بها مسمومة، تقدمها كوجبة تسمم بها القضية الفلسطينية، فإن سحرها قد انقلب عليها، فالقضية شيئاً فشيئاً تتدحرج باتجاه التدويل، أو على الأقل إلى أن تكون بنداً دائم الحضور والتداول في أروقة المؤسسات الدولية، منها مجلس الأمن والجمعية العامة، ثم الجنائية الدولية فمجلس حقوق الإنسان.
وبقدر ما يحقق اليمين الإسرائيلي "مكاسب" على مستوى تحول الموقف الأميركي، ومواقف بعض الدول العربية، بقدر ما تدفع تلك المكاسب الجانب الفلسطيني إلى أن يجترح المعجزات، والى أن يشق طريقاً جديداً غير مألوف على حركات التحرر التي ظهرت في ظل الحرب الباردة، من خلال دفع الكفاح المدني والقانوني، الذي قد يساهم جداً في إحداث "انقلاب" ليس فقط على مستوى الشرق الأوسط، ولكن داخل النظام العالمي نفسه، الذي لن يظل هكذا خاضعاً للعربدة الأميركية التي تضع قرارات البيت الأبيض فوق قرارات الأمم المتحدة، وتضع مراسيم دونالد ترامب فوق القانون الدولي.
أي بقدر ما تنحاز أميركا، وبقدر ما يتوغل اليمين الإسرائيلي في الابتعاد عن منظومة القوانين الدولية، تتعمق نظرة المجتمع الدولي لإسرائيل كدولة مارقة، وهكذا مع الوقت، ستجد إسرائيل نفسها في مكانة "دولة جنوب أفريقيا" العنصرية التي لفظها المجتمع الدولي وأسقطها في نهاية المطاف، ولم يحدث هذا لا باتباع نلسون مانديلا طريق الكفاح المسلح، كما لم يحدث بين عشية وضحاها، فقد كانت بريطانيا العظمى الأب الروحي لجنوب أفريقيا العنصرية، التي كانت تتمتع بعلاقات خاصة مع إسرائيل وبعلاقات طبيعية مع الكثير من الدول، وكانت عضوا في الأمم المتحدة، بل كانت تحتل دولة مجاورة هي ناميبيا، تماماً كما هو حال إسرائيل اليوم.
لن نعيد القول والتوقع بأن إعلان ترامب الخاص بالحل السياسي للصراع الفلسطيني/الإسرائيلي، لن يتجاوز حدود كونه "قراراً" داخلياً إسرائيلياً احتلالياً، ذلك أن إقدام "المجرم" على ارتكاب جريمة ما بتحريض وحماية من "عصابة" لا ينفي كون ما يرتكبه جريمة، سينال هو أولاً عقابه عليها، ومن ثم ينال حاميه ومحرضه عقاباً ما، هو الآخر، وأن إسرائيل ومنذ عام 67، أي منذ ثلاثة وخمسين عاماً وهي تقوم بكل الإجراءات الاحتلالية الممكنة، ورغم ذلك اضطرت إلى توقيع "أوسلو" وقبلت بقيام السلطة الفلسطينية، التي يتعامل معظم العالم معها، باعتبارها دولة فلسطينية، كذلك يمكن القول، إنه بقدر ما لا يمكن لأحد أن يفرض حلاً على الشعب الفلسطيني، لا يريده ولا يقبل به، فإنه لا يمكن إقناع أو فرض الحل الوسط على إسرائيل، أي أنه في الوقت الذي ترفض فيه فلسطين كلها صفقة القرن، فإن إسرائيل بمعظمها ترفض حلاً على أساس الشرعية الدولية، وما دام الأمر هكذا فإن الصراع سيتواصل، وبقدر ما "تنجح" إسرائيل في فرض حقائق تجعل من المستحيل إقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود 67، فإنها يجب أن تكون مستعدة لقبول حل آخر، من مثيل حل الدولة الواحدة، أو العودة لقرار التقسيم، مع منح مكانة خاصة ما، قد يكون جوهرها حرية التنقل لمواطني الدولتين بينهما، أو جعل الحدود بينهما مفتوحة، لكن المهم هو أن الأفكار لم تعد هي الحل، بل المتغيرات القادمة المرهونة بفصل جديد ومختلف من الصراع بين الجانبين.
لكن الصراع الميداني وهو الذي سيحدد مآل هذا الصخب الإعلامي الذي سارت عليه إدارة ترامب منذ وصلت البيت الأبيض، يترافق مع متغيرات أو تحولات سياسية لها علاقة بتجاوز الموقف العربي التاريخي بالذات، والذي ظل مسانداً وداعماً للحق الفلسطيني، وهو يرتكز أولاً على الموقف الجماعي، ومن ثم على مبادرة الأرض بالسلام، وإذا كانت مصر والأردن جعلتا من اتفاقيتي السلام مع إسرائيل أوراقاً من أجل تحرير سيناء وبعض الأراضي الأردنية، بل وحماية الحدود الأردنية أيضا، فإنه لا مبرر للدول الخليجية خاصة لتجاوز الموقف العربي بهذا الخصوص، لذا لا بد من تحرك سياسي فلسطيني مضاد على صعيد هذا الملف، ولابد من برنامج سياسي ودبلوماسي فلسطيني يحاصر التحرك الإسرائيلي على هذا الصعيد.
فإسرائيل تقوم أيضاً باتباع نفس التكتيك وهو "التفرد" بالدول العربية كل واحدة منفردة، مستغلة أولاً دعم أميركا أيضاً في كل هذه التفاصيل وكذلك المشاكل الخاصة التي تواجه تلك الدول، إن كان خلافها مع إيران أو مشاكلها الخاصة كما حدث مع السودان.
وحيث إن إسرائيل كانت من وراء الكواليس قد دفعت واشنطن إلى "دعم" إحداث الصراعات الداخلية، داخل بعض الدول العربية، من أجل إحداث الفوضى فيها وتدميرها، فيما سمي بالربيع العربي، فإنها تقوم اليوم من خلال التوصل إلى "علاقات" أحادية مع بعض الدول العربية بشق العالم العربي أفقياً، وإذا ما صدقت التوقعات بالذهاب إلى عقد اتفاقية "عدم اعتداء" بين إسرائيل ودول الخليج، كما توقع رئيس وزراء قطر السابق الشيخ حمد بن جاسم قبل أيام، فإن ذلك يعني بأن العالم العربي الرسمي سيعود إلى حالة الشقاق التي كان عليها إبان الحرب الباردة، بين نظامين كان كل منهما محسوباً على معسكر عالمي.
وهذه الحالة عملياً ستعني تآكل حالة التضامن العربي، التي سرعان ما ستعني موت الجامعة العربية، وليس مستبعدا أن تنشأ عنها حروب بين بعض الدول العربية، على أساس فتح ملفات مغلقة لها علاقة بالمشاكل الحدودية أو التباينات الطائفية، ذلك أن إسرائيل متجاوزة لحدودها الحالية ومحققة لطموحاتها الإقليمية لن تتحقق إلا على حساب الحقوق العربية والأرض العربية، وتتطلب أولاً استمرار حالة الضعف العربي ومن مضاعفتها، وإسرائيل إذا ما تجاوزت جدار الصد الفلسطيني وخندق المقاومة الفلسطيني، لن تتردد لحظة واحدة في مواصلة التوسع بالجغرافيا والنفوذ في دول الجوار، وما دام العالم العربي هكذا، فإنه يغريها بتحقيق كل أحلامها المريضة، لذا فالصمود الفلسطيني أولاً، وإغلاق الشقوق العربية ثانياً، هو ما يفرض على إسرائيل التوقف والتراجع عن مواصلة طريق أحلامها الإمبراطورية في العالم العربي.