أن تلتقيه على مدار خمسة أيام في غداء عمل مع شخصيات سياسية وبرلمانية وأكاديمية ورجال أعمال وفنانين، فهذا كسب لفضاءات الوعي والسياسة، وأن تسمع لأحاديثه وتساؤلاته تجاه الهمّ الفلسطيني العام والتحديات التي تحيط بمشروعنا الوطني فهذه أيضاً مساحة للعصف الذهني لها تجلياتها وآفاقها المعرفية والمعلوماتية المتميزة، وخاصة بعد العرض المهين الذي قدَّمه الرئيس ترامب في مبادرته السياسية لحل الصراع التاريخي مع دولة الاجتلال الصهيوني والموسومة بـ "صفقة القرن"، والتي شكلت صفعة موجعة للفلسطينيين، من حيث مضمونها وكذلك بالرد الباهت لقيادة السلطة وما ظهرت عليه من وضعية الاستخذاء وحالة الاستجداء المذل في لغة الخطاب من على منصة الأمم المتحدة، والتي أساءت لعزة شعبنا وجرحت كبرياءه. كان دجلان يفتش عن مخرج سياسي ورؤية وطنية تعيد للفلسطينيين القدرة على التوازن وامتلاك زمام المبادرة، والحفاظ على مكتسبات ما تمَّ إنجازه، دون أن يصل الشارع الفلسطيني إلى حالة من التضعضع والانهيار التي ساقتها إليه مواقف قيادة السلطة وأجهزتها الأمنية، والتي تبنت عقيدة التجخية والخذلان والتبعية للاحتلال باعتبار أن "التنسيق الأمني مقدس"!!
كان دحلان يطرح السؤال عما يمكن عمله للتصدي لصفقة القرن في السياق الوطني، ويستمع لمن يشاركه تلك الجلسات.
لم يبخل أحد من السياسيين والنخب الفكرية من تبخيس الموقف الرسمي الذي تبدو عليه السلطة، رغم الادعاء الظاهر للرئيس عباس برفضه للصفقة، والسبب بالطبع هو لغياب الجدية في الإقدام على خطوات عملية لتحديها، عبر التحرك لترتيب البيت الفلسطيني وتعزيز قدرات شعبنا في الداخل للتصدي لها، وإحباط حالات الهرولة خلفها في المنطقة. كان دحلان يبحث من خلال حواراته مع ضيوفه من ساحات الضفة الغربية وقطاع غزة عن رافعة لفعل وطني يمكن أن تشكل فكرنها رؤية للخلاص وطوق نجاة لمن أدركه الغرق بفعل المراهنة الطويلة على حسابات الفرعون والملأ من حوله.
كانت الفكرة التي لاقت انسجاماً واستحساناً بين الجميع هي إعادة هيكلة النضال خلف رؤية "الدولة الواحدة"، والتي ستحفظ لأرض فلسطين حدودها التاريخية من البحر إلى النهر، وتجعل من عبث البلطجة الأمريكية والعبثية الإسرائيلية محاولة يائسة لاستنبات البذور في الهواء لتناقضها الكامل مع قوانين العدل والشرعية الدولية التي توافقت عليها الأغلبية في الأمم المتحدة.
إن فكرة حل "الدولة الواحدة" أو "الدولة ثنائية القومية" قد سبق أن طرحتها بعض الجهات الفلسطينية في سياقات أكاديمية ولكنها لم تلق آذاناً صاغية؛ باعتبار أن إسرائيل في عقيدتها الاستعمارية التي قامت عليها منذ العام 1948 ترفضها بالمطلق، لأنها تتناقض مع فكرة "الدولة اليهودية"، التي عمل لها الآباء المؤسسون واليمين المتطرف في الحركة الصهيونية منذ مؤتمر بازل الأول عام 1897م.
استهوى الحوار حول هذه الفكرة الجميع، على أمل أن يبدأ التحرك بفعاليات للنخب الفلسطينية لبلورة الإطارات والآليات المطلوبة لتجسيد الفكرة والتأسيس لها كرؤية بديلة لـ"حل الدولتين"، والذي يبدو أنه لم يبق له - عملياً - من فرصة للتحقيق مع التهديدات القائمة بضم التجمعات الاستيطانية والأغوار، وفرض سياسة الأمر الواقع على كل ما جرى من تحولات جغرافية وديمغرافية في القدس وباقي أراضي الضفة الغربية.
من الجدير ذكره، أنه من الصعب أن تتفق مع دحلان في الكثير مما يطرحه، والسبب هو درجة الغموض الذي عبيها الرجل، رغم البساطة والصراحة والوضوح في الكثير مما يطرحه. إن من المعروف عن دحلان خصومته للإخوان؛ لاعتبارات تتعلق بشخصيته وسنوات قيادته لحركة الشبيبة الفتجاوية في الجامعة الإسلامية خلال فترة الثمانينيات، وكذلك علاقاته الإقليمية المعقدة وسط أجواء التناكر والخلاف والاصطفافات القائمة، والتي لها أبعاد أيدولوجية وسياسية وأحياناً قبلية وحسابات مصالح متنافضة أغرقت منطقة الشرق الأوسط وعالمنا الإسلامي في دوامة من الصراعات الدامية التي لا تُحمد عواقبها في المنظور الاستراتيجي لمستقبل شعوب المنطقة.. في الوقت نفسه، ومن باب العدل والإنصاف، فالرجل ليس ضد المقاومة ويعتبر وجودها عاملاً مهماً لوقف التغول والعلو الإسرائيلي، وهو يدعم الانفتاح والتنسيق مع حركة حماس؛ باعتبارها مكونا وطنيا فلسطينيا أساسا لا يمكن تجاوزه نضالياً، بل يجب العمل والتعاون معه.
دحلان الماضي قد نضج وتغير من شاب متنمر إلى رجل دولة يفكر بنظرة أكبر وأشمل وأوسع من عالم الحزب والفصيل إلى بناء الدولة واجتماع الشمل حول رؤية نضالية لا تترك أحداً، بل تستوعب "الكل الفلسطيني" في إطار قواعد يتم التفاهم حولها وهي مستندة على أسس من الشراكة السياسية والتوافق الوطني.
لا شك أن الشِيفرة الحركيِّة لدحلان مليئة بالأحاجي والألغار لمن لا يعرف الرجل ويخبره عن قرب، وأنا لا أزعم امتلاك هذه المعرفة ولكن بإمكاني القول إنَّ لدي ما يكفي للوثوق بوطنيته وأنه يعمل من أجل إيجاد حل سياسي لقضيتنا الفلسطينية، وأن خلافه مع الرئيس عباس هو بالدرجة الأولى يتعلق بانتقاداته لسياسية التفرد بالقرار، وعدم الانضباط بالقوانين واللوائح التنظيمية، وتكريس الفساد داخل مؤسسات السلطة وحركة فتح، إضافة للتجاوزات التي كانت تظهر على ممارسات أولاده، والتي كان دحلان يحذر منها في السر والعلن .
وعند مناقشة بعض القيادات الفتحاوية عن سر الخلاف بين الرئيس أبو مازن ودحلان، يجيبونك بأن الرجل كان قريباً من الرئيس عباس، ولطالما وفَّر له الحماية عندما كان يستهدفه البعض في قطاع غزة قبل أن يصل لموقع رئاسة السلطة الفلسطينية، نتيجة لانتقادات صدرت عنه للرئيس عرفات، حيث كان أبو مازن يعيب على الرئيس عرفات تفرده بالقرار، وينادي بضرورة بناء "سلطة المؤسسات"، وهذا ما جعل دحلان يجاريه في ذلك ويطالب هو الآخر بنفس الشيء، الأمر الذي وتَّر علاقته الوطيدة والحميمة بالرئيس عرفات لبعض الوقت. بعد استشهاد ياسر عرفات (رحمه الله)، تمَّ انتخاب عباس (أبو مازن) رئيساً للسلطة، بتحرك بذل فيه دحلان وجماعته الكثير من الجهد لتمكين الرئيس من إدارة شؤون السلطة ومواجهة خصومه من السياسيين والمعارضين الإسلاميين. لذلك، عندما انحرفت مسيرة الرئيس بعيداً عن منطلقاتها لبناء "سلطة المؤسسات"، وجنحت نحو الدكتاتورية والاستبداد بمنطق ما أريكم إلا ما أرى، وقف له دحلان - بجُرأة استثنائية - ليتحدى بعض قراراته بشكل لم تستحسنه بطانة السوء من حوله، وأخذوا في تشويه صورته والتحريض عليه.
بالتأكيد لم يكن دحلان ملاكاً أو مبرأ من كل عيب، فالرجل له أخطاؤه وكبواته، وكانت له خصوماته مع الإسلاميين، ولكنه اليوم يمد يده إلى الجميع من أجل الوطن، بأمل استنقاذ ما يمكن استنقاذه، قبل أن يتسع خرق السفينة ونهوي جميعاً إلى القاع.
إن اتفاقنا اليوم على عمل مشترك يتحرك فيه الكل الفلسطيني للتصدي لصفقة القرن يحتاج إلى "وقفة قوية وخطاب جامع"، حيث يجتمع الصف الوطني بكل نخبه وفصائله النضالية لضبط مسارات الرؤية واتجاهات البوصلة، وعدم التريث أو الانتظار لمن أوردونا موارد الهلاك في رهاناتهم لأكثر من ربع قرن على سياسة الاستجداء والتنسيق الأمني وإمكانية استمالة قلوب الأعداء!!
إن خطاب دحلان في رسالته المفتوحة للرئيس عباس حول آليات التصدي لصفقة القرن لم تلق الاستجابة المنتظرة، وحتى اتصالات قيادة حركة حماس هي الأخرى ذهبت أصداؤها – للأسف - أدراج الرياح !!