بدا مع إعلان رئيس «دولة إسرائيل» رؤوفين ريبلين، تكليف بيني غانتس بمهمة تشكيل الحكومة الإسرائيلية الجديدة، احتفاء رئيس حكومة تسيير الأعمال وحزبه، قبل أسبوعين بالنصر في انتخابات الكنيست الثالث والعشرين، بمثابة التهريج واللهو الذي ليس له أساس، أو أنه كان مبكراً، وجاء دون داع أو سبب حقيقي، وربما كان يمكن تفسير الأمر قليلاً، نظراً إلى أن الرجل الذي صارت قدمه اليمنى داخل المحكمة، يواجه هاجساً لم يمر به طوال حياته السياسية التي كانت ناجحة على أي حال على الصعيد الشخصي، وإن كانت مدمرة على المدى البعيد لمستقبل الدولة على الصعيدين الداخلي والخارجي، أو لأن النتائج الأولية كانت قد وضعت تحالف اليمين_الحريديم على عتبة الرقم السحري، حين كانت تمنحه 59 مقعداً، فيما كان يراهن أن يصل إلى الرقم 60، إن لم يكن الرقم 61، حينها كان سيسعى جاداً إلى الانشقاق باليمينية أورلي ليفي أبيكاسيس، لكن ما حدث هو أن ذلك التحالف حصل على 58 مقعداً فقط، وصارت مهمة اقتناص 3 مقاعد من الخصم أمراً مستحيلاً.
هذه المرة يمكن القول إن هناك أكثر من مستجد فيها عما حدث في الجولتين السابقتين، في انتخابات الكنيست الواحد والعشرين، حصل الليكود على أعلى المقاعد، فكلف بنيامين نتنياهو بتشكيل الحكومة، وحين فشل، وحتى لا يقوم رئيس الدولة بتكليف خصمه بيني غانتس، سارع إلى التقدم بمشروع حل الكنيست والتوجه إلى انتخابات جديدة، أدرك قبل إجرائها رئيس الدولة خطأه وبأنه كان عليه أن يكلف غانتس بعد فشل نتنياهو، وهذا ما حدث بعد انتخابات الكنيست الثاني والعشرين، حيث أصر افغيدور ليبرمان على حكومة الحزبين، ولا بديل آخر، ما سمح لنتنياهو أن يُفشل ذلك الخيار، بإصراره على أن تكون كل مكونات تحالف اليمين_الحريديم في الحكومة، وهذا يعني أن يمتنع ليبرمان عن المشاركة، في الوقت الذي استبعد فيه تحالف خصوم نتنياهو مشاركة العرب أو حتى تشكيل حكومة ضيقة بدعمهم من الخارج.
هذه المرة، الأمر اختلف، فقد تم تكليف غانتس أولاً، وبدعم أغلبية برلمانية تتجاوز «مفاجأة» أورلي ليفي، حيث أن كل القائمة العربية أوصت بغانتس بما في ذلك نواب التجمع، وحيث كان في المرة السابقة مجموع من أوصوا بنتنياهو 55 وبغانتس 54، فإنه باستثناء ليفي ابيكاسيس، أوصى جميع النواب بأحد الرجلين، بنتنياهو 58 وبغانتس 61، وهذا يعني بأن موافقة كل نواب أزرق_أبيض، بل كذلك قائمة «إسرائيل بيتنا» على خيار الحكومة الضيقة، إنما هو خيار جدي، معه يحقق جميع مكونات هذا المعسكر هدفهم الرئيسي الذي يجتمعون حوله وهو إسقاط نتنياهو وإخراجه من ملعب السياسة إلى السجن.
أو على الأقل، يعني وضعه تحت الضغط الحقيقي، بين خيارين لا ثالث لهما، وهما إما أن يوافق على الانضمام إلى حكومة الطوارئ برئاسة غانتس وليس برئاسته هو، ووفق شروط معسكر الخصم، وليس وفق شرطه هو الذي به حاول أن يكرر عرض حكومة الوحدة بعد الانتخابات السابقة، حيث أصر هذه المرة على الرد على مقترح غانتس بمشاركة كل القوائم الممثلة في الكنيست بحكومة الطوارئ، بإخراج العرب من تلك الحكومة !
هذا الدليل الفاضح على عنصرية رجل قبيح بكل معنى الكلمة، بحجة أن القائمة العربية تؤيد «الإرهاب»، وهذا قول سياسي بغيض، فلو كان هناك أي قرار قضائي يمنع أي مرشح للقائمة العربية لما دخل الكنيست أصلاً، لكن نتنياهو الذي يتحمل مسؤولية فشل أوسلو، وإغلاق أبواب الحل السياسي، ويتحمل مسؤولية تفشي اليمين والتطرف والعنصرية داخل إسرائيل، ما زال يسير على طريق أوهام المحتلين والعنصرين، لذا من الطبيعي أن يصل إلى نهايته، وفي الحقيقة فإن القائمة العربية، كانت هي مفتاح نجاح معسكر خصوم نتنياهو، فهي التي تصدت إلى نصر كان يمكن أن يحصل عليه، بالنظر إلى تقاعس خصومه الآخرين، فباستثناء الليكود، لم تحقق أي قائمة زيادة في عدد المقاعد سوى القائمة المشتركة، بل إن كل قوائم معسكر خصم نتنياهو تراجعت، وفقط القائمة العربية هي من رفعت عدد ممثليها.
والقائمة العربية أصبحت في نظر الكثير من الإسرائيليين المنقذ من تحول الدولة منذ عقود على يد اليمين إلى دولة دينية واحتلالية/استعمارية، ابتعدت كثيراً عن كونها دولة القانون الليبرالية، لدرجة دفعت اليميني ليبرمان إلى أن يدق ناقوس الخطر، في مواجهة الحريديم، وفي الحقيقة فلأن العرب من مواطني دولة إسرائيل هم ضحايا التطرف العنصري الذي زرعه اليمين بقوة خلال أكثر من أربعة عقود مضت، فمن الطبيعي أن يكونوا أشد المكافحين ضده، لذا فإن مستقبل طبيعة الدولة بات بين أيديهم، فإما أن تعود البوصلة باتجاه أن تكون دولة المواطنة، أو أن تستمر في الانحدار كدولة عنصرية/استعمارية، لا مستقبل لها في عالم تزداد فيه ظاهرة المساواة بين البشر والعدالة الاجتماعية وإخراج القوة العسكرية من معادلة الخصومة بين الدول، ومنع ما ينشأ عنها من حروب، وقهر، وإن كان الصراع بدأ باستخدام وسائل أخرى، جلها ذو طابع اقتصادي.
المهم أن آخر ألاعيب نتنياهو كان محاولة استغلال فيروس كورونا المتفشي في العالم، ومنه إسرائيل، ليتسنى له تشكيل الحكومة، فكل همه هو أن يبقى رئيساً للحكومة حتى يبقى متمتعا بالحصانة، ومعروف بأن النواب لا يتمتعون بالحصانة حين توجه لهم تهم قضائية، وربما كان هذا مبعث موافقة كل نواب «أزرق_أبيض» وكذلك «إسرائيل بيتنا» على الحكومة الضيقة، ونعني بذلك تشكيل حكومة لا يكون فيها نتنياهو لا رئيساً للحكومة ولا وزيراً، وبذلك يتجنبون حتى تقديم مشروع قرار ينزع عن رئيس الحكومة الحصانة، كما كانوا قد فكروا بعد إعلان نتائج الانتخابات التي أظهرت تفوق الليكود ومعسكره، لأن الجميع كان قد اختزن في ذاكرته استثناء العرب من معادلة المعسكرات، لكن التحالف السياسي على البرنامج الحكومي بين «أزرق_أبيض» وليبرمان أولاً ومن ثم قبول فكرة الحكومة الضيقة بدعم العرب، قد فتح الأبواب على مصراعيها، لإنجاز ما عجز خصوم نتنياهو عن تحقيقه في الجولتين الانتخابيتين السابقتين، وهكذا يمكن القول إنه قد أُسقط في يد نتنياهو أخيراً، وان قشة «كورونا» لن تقوى على إنقاذه من قدره الذي بات وشيكاً.