لم تكن الأوبئة دوما ذات نتائج سلبية، فهي عند الشعوب الحية تخرج أفضل ما في أخلاق الشعوب، وعلى ذلك كان لا بدّ من التذكير بأن مهمة الإنسان في الأرض هي الاستخلاف الحضاري، وإقامة الأمر لصالح عمارة الأرض وليس هدمها.
سابقا تحدث الفقهاء والفلاسفة عما يحبون من الناس إظهاره في الجوائح والنوائب. وفي التاريخ الإنساني شواهد وأمثلة كثيرة على كيفية مواجهة الظروف الصعبة التي تخلق التجربة الخاصة بكل شعب وأمة. وقد مر على الإنسانية الكثير من الأزمات التي أكدت أن سمو الأخلاق وإظهار التعاون للصالح العام هو أفضل ما يجب فعله.
مر الرومان من هنا ووصلوا الهند مع الإسكندر ، وأزهقت الكثير من أرواح جنود الشاب المقدوني التي كان تهوره وعطشه للتوسع سبباً في أن تنال منه أمراض الجيوش من طاعون وحمى وملاريا.
اما جيش المسلمين حين جاء للبلاد الشامية سنة ١٨ للهجرة /٦٤٠ للميلاد فقد ضربه وباء طاعون عمواس، ومات فيه نحو ٣٠ ألف مسلم، وقد ذكر المؤرخ الواقدي في فتوحه ان نحو ٢٥ ألفا هم ضحايا الطاعون وأيده ابن كثير في ذلك.
لم تكن تلك آخر الملمات بل تكرر المشهد مع نابليون في حملته على الشرق سنة ١٧٩٨ وحين قاد جيشه لفلسطين لاتمام فتوحه سنة ١٧٩٩م، غرق الجيش في وباء الطاعون الذي حملته الجرذان في فلسطين. وكانت تلك ضربة موجعة لنابليون بونابرتيه.
كثير من المدن والدولة أصيبت بوباء او زلزال وفي عمان وشرقي الأردن تسربت الأمراض الجدري والحصبة والملاريا من دول الجوار في العشرينات وضرب المدينة زلزال ١٩٢٧ وقد مات به عدد كبير وهدمت البيوت، وكذلك الحال في فلسطين.
تعاون الناس فيما بينهم على التعاضد ورفع مستوى التعاون، وكانت الأساليب بدائية في المكافحة والتخفيف من آثار الزمان وبلايا الدهر.
كانت الجثث تبقى في الشوارع وتحت الأنقاض، وكان السبيل لدرء الخطر، البقاء في المنزل وعدم مخالطة الناس.
ولم يكن الحب في زمن الأوبئة والنوائب الكبيرة بعيدا عن التداول، فابن السراج المتصوف الكبير وضع كتابه (مصارع العشاق) في ظل انحطاط الأخلاق في بغداد بعد اجتياحها من قبل المغول، داعيا إلى نشر الفضيلة والحب الطاهر لتطهير المجتمع من الفسق.
كانت المدن بلا شك اكثر حظا من القرى والبوادي في الجوائح الكبرى، فقد أسمعتنا أعمال المؤرخين ما حدث بها وأحصت عدد الموتى، وفي تقارير حكومة الانتداب البريطاني في شرقي الأردن إحصاء دقيقا لضحايا الأمراض السارية من سل وحصبة وسعال وملاريا وغيرها من الأمراض الرائجة آنذاك، قبيل ان نبلغ ما نحن به اليوم من نعيم وصحة، بيد أننا لا نقيم لنعم الراهن كبير تقدير، ويبدو أننا بحاجة لفقيه مثل ابن السراج ليعضنا بوجوب حفظ النفس من الهلاك وتعظيم العفة والخلق النبيل والحب في زمن الكورونا.