يبدو أن الكورونا تجاوز كونه فيروساً أو وباءً ينحصر الاهتمام به وبتداعياته على مجال الصحة والعلوم الطبية كما هو الشأن مع كل الأوبئة التي مرت على البشرية ، حيث من الملاحَظ سرعة تحوله إلى جائحة أو ظاهرة تثير الرعب في كل العالم ،عند الصغير والكبير والغني والفقير فارضاً عدالته على الجميع فلا فرق ما بين المواطن العادي والملوك والأمراء وسادة القوم ،أو بين دول غنية وأخرى فقيرة .
لقد فرض الكورونا حضوره المرعب قسراً على كل مناحي الحياة البشرية من اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية وسياسية ،وأخل بتوازنات وتواضعات كانت تحفظ للأنساق والمنظومات الاجتماعية والدولية درجة من الثبات بالرغم مما يعتريها من تفاعلات وتحولات كانت دائما تحت الضبط وفي سياق لا يخرج عما يستشرفه علم المستقبليات ،وإن كان العالم في سياق تطوره بفعل أحداث جسام من ثورات واختراعات مر بالثورة الزراعية ثم الصناعية ثم عصر النهضة والحداثة وما بعد الحداثة ثم عصر العولمة فإن تحقيباً أو عصرا جديداً سنشهده يسمى عصر ما بعد الكورونا .
أربعة أشهر من الرعب والارتباك عند الناس العاديين وعند أعلى مراكز القرار السياسي والأمني والبحثي في كافة الدول دون أن يتم الحسم في أصل الفيروس ومنشئه وما إن كان برياً أم اصطناعياً ؟وتعددت التحليلات والتفسيرات التي تجاوزت ذوي الاختصاص من الأطباء والمختصين في علوم الأوبئة ليخوض في شأنه كل من دب وهب من محللين سياسيين ومنجمين ورجال دين ،وأصبح الاهتمام بالكورونا سياسياً واستراتيجياً بما لا يقل عن حقيقته الطبية .
شط البعض في التحليل مستحضرا نظرية المؤامرة ،دون الحسم إن كانت مؤامرة من الصين على العالم أو مؤامرة من أمريكا على الصين ودول أخرى تعتبرها معادية لها ،بل وصل التفكير عند البعض باتهام الغرب بإنتاج الفيروس وهندسته أو برمجته ليُصيب ويقتل تحديداً أصحاب جينات واعراق محددة ،أو كبار السن الذين يمثلون الأغلبية من السكان في الغرب ويشكلون عبئاً على المجتمع والاقتصاد الوطني ،أو أنه سلاح دمار شامل جديد يرمي من أنتجه إلى كسر حلقة توازن الرعب التي تقيد استعمال الأسلحة النووية والذرية بين الدول التي تملكها.
أسباب كثيرة تقلل من قيمة نظرية المؤامرة أو تشكك بها ،منها انتشار الوباء في غالبية دول العالم وزهقه أرواح الآلاف حتى عند طرفي معادلة المؤامرة – الصين وأمريكا - ، ولكن هذا لا يمنع من إفساح حيز ولو محدود من التفكير بالأمر لعدة أسباب منها :
1- بالرغم من توقيع اتفاقات دولية تُحرم انتاج أو استعمال السلاح البيولوجي وأهمها اتفاقية 1972 التي حظرت استحداث وإنتاج الأسلحة البكتريولوجية (البيولوجية) والتكسينية وتدمير هذه الأسلحة ،ثم اتفاقية باريس حول نفس الموضوع في عام 1993 والتي دخلت حيز التنفيذ عام 1997 ، إلا أن الدول وفي سياق صراعها المحموم على المصالح أو للدفاع عن نفسها ما زالت تعمل سراً على إنتاج أسلحة جرثومية وكيماوية في مصانعها وإجراء التجارب على الحيوانات وربما على البشر.
2- هيمنة السياسة الواقعية الفجة التي تهتم بالمصالح وخصوصاً مصالح الطبقات الرأسمالية المسيطرة أدى لانهيار المنظومة القيمية والأخلاقية عن الطبقات السياسية وبعض القادة ،وهو الأمر الذي لا يُستبعد معه اللجوء لأية وسيلة للحفاظ على المصالح والسيطرة على العالم ،ومثالاً على ذلك الرئيس الأمريكي ترامب الذي وضع الولايات المتحدة في مواجهة مع كل العالم ،وأوصل العلاقات بين واشنطن من جانب والصين وروسيا وإيران في الجانب الآخر لدرجة (حافة الهاوية) ،أيضا الطبقة السياسية في إسرائيل في عهد نتنياهو حيث يتم التنكر للشرعية الدولية وتجري عملية تطهير عرقي ضد الشعب الفلسطيني ،ويندرج في نفس السياق الحروب غير العقلانية التي تجري في أكثر من منطقة في العالم وخصوصاً في الشرق الأوسط حيث استُعمِلت أسلحة كيماوية .
3- الأزمات الدولية المتراكمة والاستعصاءات المالية والاقتصادية التي تهدد النظام الاقتصادي الدولي بالانهيار وخصوصاً اقتصاديات الدول الرأسمالية الكبرى وهو الأمر الذي يجعل الحرب بأي وسيلة كانت أمراً مطروحاً .
4- ما تواجهه دول الغرب من تحديات بسبب توقف الزيادة السكانية الطبيعية بل وتراجعها في بعض الدول وضع هذه الدول أمام خيارين صعبين : إما استمرار الهرم السكاني المقلوب حيث زيادة أعداد كبار السن غير المنتِجين وإرهاق الدولة بالصرف عليهم مع تراجع نسبة الشباب ،أو تصحيح الهرم السكاني باستيعاب ملايين المهاجرين من دول العالم الثالث الأمر الذي يهدد نمط الحياة والثقافة والهوية الوطنية وخصوصاً عندما يكون الوافدون الجدد من العالم الإسلامي ،كل هذا قد يدفع بعض مراكز القرار باللجوء إلى حلول غير متوقعة وشبه انتحارية (الحل الأخير) ،حتى وإن أدى هذا لإزهاق أرواح مئات الآلاف أو ملايين من السكان أو كبار السن إن كان في ذلك ضمان إعادة التوازن للمجتمع وتجديد شبابه والحفاظ على هويته الثقافية والدينية!!! .
لا نريد أن ننساق مع التحليلات التي هوَّلت من الكورونا لدرجة حديثها عن نهاية العالم وهو حديث لم يصدر فقط عن مهووسين دينياً بل أيضاً عن مفكرين وعلماء علمانيين .ولكن من الصحيح أن تداعيات فايروس الكورونا خلال أربعة شهور فقط من ظهوره ،أو الاعتراف بظهوره في الصين في نهاية العام الماضي ،سيجعل العالم ما بعد الكورونا مختلفاً عما كان قبله ،ليس فقط في مجال الصحة والطب حيث كشف الوباء هشاشة النظام الصحي حتى في الدول المتقدمة بل أيضا في مختلف المجالات ،وارهاصات هذه التداعيات ذات الأبعاد الاستراتيجية نلمسها من خلال :
1- اختلال المنظومة المالية والاقتصادية العالمية التي تم وضع أسسها مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية .
2- كشف الوباء ضعف وهشاشة المنظومات والتكتلات الإقليمية والدولية بدءاً من الأمم المتحدة وضعف تأثيرها في مواجهة الأزمات الطارئة التي تهدد البشرية ،إلى الاتحاد الأوروبي الخ .
3- الكورونا أطلق رصاصة الرحمة على العولمة وما كانت تبشر به من تحويل العالم لقرية صغيرة وإزالة الحدود بين الدول ،حيث مع كورونا أصبح العالم جزر منعزلة ومنغلقة على ذاتها .
4- التداعيات السياسية التي وصلت لحد اسقاط حكومات كما جرى في الكوسوفو والتوظيف السياسي للوباء في دول أخرى سواء من طرف الطبقات السياسية الحاكمة أو من طرف المعارضة .
5- ظهور نزعات وتوجهات تشكك بالديمقراطية وما أنتجت من أشكال متوحشة من الرأسمالية والنيوليبرالية وتمتدح الأنظمة الشمولية مستلهمة التجربة الصينية ونهج روسيا الاتحادية في التعامل مع الفيروس ومع الدول الأخرى المصابة به كإيطاليا .
6- لن يكون تأثير الكورونا على النسق الاجتماعي والسلوك البشري وأيضا في مجال الآداب والفنون والسينما بأقل من تأثيره على المجالات الأخرى ،وسيكون على علماء الاجتماع والآداب والمبدعين تجديد نظرياتهم ومقارباتهم لمفهوم المجتمع ومفهوم التضامن والتعاضد الاجتماعي بعد أن تم تسجيل حالات صادمة لتخلي عائلات عن أفراد منها بسبب الإصابة بالوباء ،وغلق الأبواب أمام الجيران والأحبة وأصبح حال الناس ينطبق عليه ما جاء في قوله تعالى: (( يَومَ يَفرّ المَرء من أَخيه وَأمّه وَأَبيه وَصَاحبَته وَبَنيه لكلّ امرئ منهم يَومَئذ شَأنٌ يغنيه )).
وأخيرا ،ولأن الكورونا عابر للدول والقارات والأيديولوجيات والأديان فإن الدول الفقيرة أو دول الجنوب سينالها نصيب منه وقد حدث ذلك كما رأينا في كثير من الدول كإيران ،وإن كانت الصين والدول المتقدمة تملك من الإمكانيات المالية والتجهيزات الطبية ما يمكنها من الحد من انتشار الوباء وإيجاد الدواء واللقاح للقضاء عليه أو محاصرته ،فإن انتشار الوباء في الدول الفقيرة سيؤدي لكارثة تؤدي بحياة الملايين حيث تفتقر هذه البلدان ليس فقط للتجهيزات الطبية بل للمقومات العادية للحياة من مياه نظيفة وكهرباء وغذاء ،ونأمل أن يتم التوصل لعلاج قبل استفحال الأمر في البلدان الفقيرة .