رغم تخوفاتي الطبيعية كأي مواطن في الكوكب، حين يتعرض لتهديد وجودي ناجم عن وباء أو آفة أو أي خطر، فالشعور الطبيعي هو التأهب للدفاع عن النفس، لكنني أجد نفسي معجبا كثيرا بإيجابيات فرضتها الجائحة على المجتمعات البشرية، ولم يكن متاحا أن تقبل هذه المجتمعات حتى بمناقشة مثل هذه التغييرات على حياتها اليومية..لا أتابع تفاصيل ما يجري في العالم، لكنني ملمٌّ بكثير من تفاصيل حياتنا اليومية في الأردن منذ إعلان الدولة التعامل مع هذه الجائحة، وقد كتبت في بدايتها متوقعا حدوث أخطاء اعتبرتها مبررة، فالظرف جديد واستثنائي، ولم يسبق لنا في هذه الدولة أن مررنا باختبار من هذا الحجم.
نحن نبلي حسنا:
بسلاسة منقطعة النظير، ينتقل المجتمع الأردني الى الرقمية كمتطلب إجباري لولوج الثورة الصناعية الرابعة، ويستخدم التطبيقات الإلكترونية بسلاسة حد المهارة، وهي حالة كان الجميع يخشى من التعامل معها، ويتوقع أن أخطاء كبيرة ستعتريها في حال تطبيقها، اعتمادا على رأي كان يقول بأن الناس التقليديين لا يسهل عليهم التغيير، وإن قاموا به فينقصهم ثقافة مختصة..الخ، لكن الذي حدث مختلف تماما، وهو أوضح مثال على أن الأردنيين يتمتعون بهذه الثقافة ولديهم القابلية لولوج عالم الرقمية والخدمة المؤتمتة بسلاسة، ولعل هناك أمثلة نعيشها يوميا تثبت بأننا استطعنا أن نتعامل مع التعلم عن بعد، وهذا مثال حي ربما لم نتمكن من تقييمه حتى اليوم، لكنه ناجح ومناسب، ويتيح لكل طالب أن يتابع التعلم ويتواصل مع المؤسسة التعليمية، ويمكنه التفاعل معها بالتغذية الراجعة، وعلى الرغم من أن الحاجة أو الجائحة هي التي دفعتنا لمثل هذا الخيار الجريء، واعتبرناه مغامرة كبيرة، إلا أنه من الأمور التي ثبت بأنها متاحة ومناسبة وإن اعتراها ضعف بحكم غياب التقييم حتى الآن، فالتقييم سهل وقادم ويمكن تلافي الأخطاء، ويمكننا بعده هذا أن نقول: يمكننا اعتماد التعلم عن بعد في مؤسستنا التعليمية ويمكننا اعتباره أسلوبا متطورا من التعليم المدرسي والجامعي، ولجته الأردن بنجاح.
الخطاب المتردي الذي كان يجثم على الرأي العام؛ تبدد، وهذا مجال آخر من المجالات التي نبلي فيها حسنا، وعلى الرغم من حدة الحديث والنقد على خلفية الالتزام بتعليمات الدولة للناس في التعامل مع الجائحة وعدم نقلها، والالتزام بحظر التجول وعدم التحدث بما يروّع الناس .. إلا أن الجميع يطور من أساليبه في التعبير، حتى وإن ظهر حادّا، فهو سرعان ما يتمنطق، ويكتشف أسلوبه المتوافق مع وعي الناس وحقوقهم، وعلاوة على هذا الثقافة الحوارية الإيجابية التي بدأت بالظهور في تفاعل الناس، هناك عادات صحية كانوا قد هجروها، إما بسبب سرعة إيقاع الحياة، أو بسبب تضخم الآلة وسيطرتها حتى على أنماط الاستهلاك في يوميات الناس، فمثلا السير على الأقدام لشراء الاحتياجات العادية الضرورية وغيرها، وبين يوم وليلة عاد بعد غياب طويل، وأصبح كثير من المواطنين يخرجون للمشي حقيقة وليس لشراء سلع ما، بل إن بعضهم أصبح يسير في الشوارع الفرعية ملتزما بمتطلبات السلامة، يتمشى لتحريك جسده فتجد عائلات بأكملها تسير متباعدة في بعض الأحياء..عادة كان يلزمنا الكثير من المبادرات والمنظرين الاجتماعيين والرياضيين للتحدث عنها ورعايتها، دون نتائج، لكنها اليوم تحدث دون الحاجة لكل هذا الفريق من المختصين، مع التأكيد على أن ثقافة صحية تنامت لدى الناس وسوف تتطور أكثر في المستقبل.
هناك جهد كبير صامت يبذل في وزارة الاقتصاد الرقمي والريادة، وعلى الرغم من أنني حساس جدا تجاه أتمتة النشاط العادي في حياتنا العامة، إلا أنني أجد مهنية وجاهزية عالية وجهودا مؤثرة تقدمها الوزارة في هذا الظرف، جعلت الحياة أكثر سهولة مما نعتقد..
فهل نشكر الجائحة التي حررتنا من نمطية وتقليدية كانت تقتلنا؟