ما زال العالم يعيش هول المفاجأة التي دهمته، كل شيء تجمد ليس فقط المعامل والمصانع والمزارع وحركة الطيران والمواصلات، بل المجتمع نفسه كل أسرة وكل مواطن في العالم اختار الحبس طواعية وتوقفت العلاقات الاجتماعية بمعناها الإنساني وتحولت إلى العالم الافتراضي عبر الفضاء الأزرق وبرامجه الأخرى.
السياسة كانت أول من توقف منذ اللحظة الأولى لنشر خبر الوباء، فقد تجمدت الصراعات والمؤامرات ودوائر المخابرات، السياسة التي أرهقت البشر وكأن العالم كان يحتاج إلى إجازة طويلة من عبث السياسيين وأغلب الظن أنه منذ أن انشغل العالم بالفيروس الجديد لم يمت أحد بالسلاح وهذا إنجاز كبير لمن لم تقنعهم كل النداءات الإنسانية بوقف الحروب.
باستثناء إسرائيل وفيما ينشغل العالم بقضية واحدة اسمها المرض والمستشفيات والصحة، تشكل حكومة على أساس الضم والاستيطان وتلك حقاً عجيبة وسط الصمت المطبق الذي يحيط بالكرة الأرضية، لكن جميلة هي المدن التي أخذت إجازة وخلعت ضوضاءها وصخبها الذي رافقها منذ فجر التاريخ ولكنها أيضاً حزينة بلا ملامح فالمدن هي ابنة الصخب والفوضى.
لا يمكن القول إن البشرية امتصت الصدمة لأن المجهول الذي يرافق اللحظة يمدد وقع الصدمة الأولى ويحولها الى دائمة، فلا أحد قادر على المغامرة والتخمين متى ذروة الوباء وهل سينتهي قريباً أم لا؟ هل نحن أمام أسابيع؟ أشهر؟ هل سيتراجع في الصيف وسيعود بقوة أكبر في الشتاء القادم؟ أحد التقديرات يقول ذلك ولكن لا شيء مؤكدا سوى الصمت الحزين للبشر ووجه المدن.
في اللحظة المرضية تسيطر العاطفة ولا شيء غيرها سوى سؤال كيف نشفى؟ تلك أولوية ويتراجع العقل والعمل وكل شيء تلك طبيعة الأشياء ولكن عندما تطول الأزمة لابد أن تهدأ العاطفة قليلاً تاركة لبعض العقل كي يفكر بأسئلة أخرى ماذا بعد، إن استمرت أكثر؟ فالمجتمعات البشرية تعرضت لأوبئة وحروب وكوارث ونكبات ماذا لو استمر الوباء لعدة شهور أخرى، هل يحتمل البشر مزيداً من وقف المعامل والمزارع والمصانع؟ فإذا كانت خلال الأسابيع الماضية منذ أن بدأت تتصرف بهلع وأوقفت كل شيء تعيش على فائض الانتاج واحتياطات التخزين، فماذا بعد أن تنتهي تلك التي تعمل بكامل طاقتها لتغطي احتياجات الشعوب؟
وإذا كانت الصين الدولة التي أصابتها الضربة مبكراً ابتدعت نظرية العزل الاجتماعي ووقف كل شيء، لكنها أغلقت فقط مدينة ووهان وحدها فيما بقيت باقي المدن والمصانع تعمل بكامل قدرتها تغطي الاقتصاد والاحتياطات، بل ربما عملت بأكثر من طاقتها تحسباً لاغلاق قادم ان امتد الوباء وهذا جعلها تملك أكبر احتياطي من المعدات الطبية والكمامات لتوزع على العالم، واذا كانت الصين لم يتوقف فيها الانتاج سوى في مدينة واحدة فكثير من الدول توقف فيها كل شيء فكيف ستسير في قادم الأسابيع والأشهر؟ هو السؤال الذي يعيد الجدل حول العاطفة والعقل وحول صحة المجتمع وحاجاته.
معظم الدول أخذت بالنموذج الصيني وتعرضت للشلل التام، لكن هناك دولاً مثل السويد تصرفت بشكل مختلف فالحياة فيها تسير بشكل طبيعي، فقط قامت بعزل كبار السن ومنعت تجمعات لأكثر من خمسين فرداً ويبدو أن الأمور ليست أسوأ من الدول الأوروبية التي طبقت النموذج الصيني.
دول العالم الثالث البعيدة عن كل نقاشات الأزمة ببعدها الصحي والمختبرات البحثية أو حتى الاقتصادي ذهب الكثير منها نحو العزل والتوقف، فاذا كانت دول مثل كندا وأوروبا قادرة على الإنفاق على شعوبها وتعويض خساراتها بحكم احتياطات مالية كبيرة تملكها فهي بالتأكيد كانت تحسب لكارثة بهذا الحجم على شكل حرب مستمرة أو زلزال طبيعي أو غيره ولم تهتز اقتصادياً، لكن دول العالم الثالث تغرق أكثر في أزمتها التي لم تكن تحتمل هذه الأزمة ويبدو أنها تذهب لمزيد من الفقر والديون لاحقاً ونحو مزيد من استلاب القرار السياسي لصالح الدول الغنية ذات الاحتياطات الكبرى التي سنشهد مزيداً من هيمنتها، وحتى دول الخليج التي يعتمد دخلها على السلعة الواحدة وهي النفط الذي يشهد وشهد تراجعاً عالمياً بفعل وقف الطلب لن تكون بمنأى عن ذلك.
حتى الآن أكثر من مختبر أو دولة أعلن فيها عن اختراع الدواء ترتفع آمال البشرية عالياً ولكنها تعاود الهبوط أمام قراءة أرقام الذين يتساقطون يومياً. يتجدد الأمل ثم يغادر لأن الجميع يتفق أن لا علاج قبل أشهر أو عام وبالتالي نحن أمام أشهر بالحد الأدنى نعايش الوباء وبصرف النظر عن أن الأرقام وصلت ذروتها أو لا لكن الخوف سيبقى وان تراجعت وتيرته بحكم اعتياد الأمر الواقع وثقافته النفسية.
ومع حكم الأمر الواقع وما يجعل المرض من عاديات الأشياء وفي ظل خطر يتنامى يتهدد الأمن القومي بمفهومه الغذائي والصناعي وما ستتركه حالة الانعزال من آثار على سلوك البشر، وهو أمر بدأ يشكل قلقاً للساسة وصناع القرار في العالم، لأن التغيير الذي يطرأ على البشر قد يحتاج الى تدريب للعودة للحياة بينما أن أمر المجتمع والاقتصاد لن يحتمل سوى العودة بنفس الوتيرة وربما أعلى تعويضاً لما حدث.
من يراقب حركة العواصم قليلاً قليلاً يلحظ بعض علائم الحياة تطل من نوافذ البيوت والشوارع وأغلب الظن أن الحكومات التي بدأت تستشعر الأزمة الأكبر وخصوصاً بسبب ما يشبه الثبات النسبي لأرقام الضحايا، وأمام خطر موت المجتمع أو انكساره أغلب الظن أن البشرية ستختار التعايش مع المرض والعودة للحياة مع دفع الثمن لأن لا خيار ولن تنتظر البشرية من يقول الآن أصبح اللقاح جاهزاً لأنه إلى حين ذلك ستكون الكوارث التي تحققت أكبر كثيراً من كارثة كورونا. هل نحن في الطريق لهذا؟ ربما ...!