ملحمة جلجامش، وهي من أقدم النصوص المكتوبة في التاريخ، تصف هزيمة المارد «خمبابا»، بأنه لم يستطع التقدم، ولا التراجع، ولا التحرك يميناً ولا يساراً، (فلم يجد بداً من الاستسلام). لا يحتاج الأردن إلى المزيد من الأدلة لإثبات النوايا العدوانية الإسرائيلية. ولكنه بحاجة لتطوير خيارات للتصدي لهذه العدوانية، والدفاع عن الأردن في ظل موازين القوى الحالية.
لا توجد بيئة استراتيجية لا تمنح الإرادة الحرة خيارات.كل بيئة استراتيجية تمنح -لمن شاء- خياراتها المناسبة، وتحدد نمط ما يمكن أن يستخدم من ادوات. ولكن إذا لم تكن الخيارات التي تعبر عن (فشة الغل) متاحة، فهذا لا يعني أن نلجأ إلى خيارات (رفع العتب). ومهما كانت طبيعة وخصائص البيئة الاستراتيجية، هناك فرصة لتطوير واستخدم ادوات جديدة في الصراع. المطلوب فقط أن لا نستسلم. فما دامت هناك إرادة فالخيارات متاحة، وتحتاج إلى عزيمة لتطويرها وتوظيفها. فلا شيء يغري عدوانية الخصوم مثل انعدام الخيارات.
مفتاح تطوير الخيارات «الممكنة والمفيدة» هي مراجعة ما لدى الأردن من ميزات، والبدء بتوظيفها لتحقيق هدف واضح، وهو «كسر شوكة العدوانية الإسرائيلية». الخلل الحاصل يتمثل في حقيقة بسيطة: إسرائيل طورت عناصر قوتها، وهي تستخدمها لتحقيق أهداف عدوانية. في حين نحن نتأخر على الأقل خطوة عن تطوير عناصر قوتنا، وزجها في الصراع لكسر شوكة هذه العدوانية، وحماية امن واستقرار وازدهار الأردن.
وحتى ينتقل الأردن، من موقف التكيف مع العدوانية الإسرائيلية إلى موقف المبادئة، يجب بدءاً التخلص من ميراث منطق الاعتراض، (والذي احترفه العالم العربي، وكانت حصيلته، في أحسن حالاتها، كسب بعض الوقت على بعض الجبهات). والمبادئة تبنى على تحديد هدف واضح وهو «كسر شوكة العدوانية الإسرائيلية». وبعد ذلك فإن الحفاظ على وحدة الهدف، وإدامة الجهد وتعزيزه، سوف يمنح الأردن، فرصة، يصر الكثيرون، الذين أغلقت عيونهم غبار الهزائم، أنها غير موجودة.
فمن لا ينقذ إرادته من ركام الهزائم، فإنه يحكم على نفسه بالفناء. ومن لا يستطيع أن يبقي عيونه مفتوحة، بالرغم من الهزائم، فإنه لن يستطيع تجاوزها. والأردن الذي تمكن من انتزاع نصر عسكري، وكسر شوكة العدوانية الإسرائيلية في معركة الكرامة، بعد تسعة شهور على هزيمة حزيران، لديه ما يقنع، بإمكانيته لرسم خط مواجهة جديد، مليء بالفرص الاستثنائية.
هناك نموذج استراتيجي، مصمم لتمكين دولة صغيرة من ردع عدو قوي، وكسر شوكة عدوانيته، عبر تطوير منظومة خيارات متكاملة، وهو نموذج الردع الديناميكي. وهو خليط بين الحرب الممكنة والسلام المعلن (التهديد والمصلحة).
يتلخص الردع الديناميكي بأنه، «مزيج فعال» لخيارات تتوزع على العديد من المستويات غير العسكرية. وهو منسجم مع الوسائل المتاحة في الساحة الدبلوماسية. فأهم ميزة للصراعات المعاصرة، أن الجيوش تبنى حتى تردع الخصوم من اسخدام قوتهم العسكرية، وتمنح الوسائل والادوات (غير العسكرية) فرصة للعمل، وتحقيق انجازات تراكمية.
يستطيع الأردن احتواء آثار ما سيجري بعد أسابيع، عبر رسم خط مواجهة جديد مع المشروع الصهيوني. فالقدرة على رسم خطوط المواجهة، تتلخص في توظيف عناصر قوة جديدة وزجها في الصراع، وحرمان الخصم من ميزاته وعناصر تفوقه. ومن يحسن رسوم خطوط المواجهة، فإنه، يكسب الحرب بأقل عدد من المعارك، وربما «بدونها» حسب تعبير أحد أبرز قادة الفكر الاستراتيجي في التاريخ (صن تسو).