في لقاء له مع الشبيبة الفتحاوية في الجامعات الفلسطينية قبل أسابيع، قال رئيس السلطة محمود عباس، بحسب وكالة “وفا” ما يلي بنصه العامي: “قلنا عندنا أفكار، حق اللاجئ حق شخصي يعني أنت لاجئ وابنك لاجئ، أنت بتتنازل وابنك ما قبل أو بالعكس، هو حر عندما نقول هذا خيار شخصي فإنه يختار”. وأضاف “فإذا قلنا أن يبقى في المكان الذي هو فيه؛ في الأردن أو في سوريا، أو أي مكان ويأخذ تعويضا، وإما أن يوافق على الذهاب إلى دولة أخرى بالاتفاق معها، يعني أقول أنا أريد أن أهاجر إلى كندا مع التعويض، والثالث أن يقرر العودة إلى دولة فلسطين ويأخذ تعويضا، أو أن يقرر العودة إلى دولة إسرائيل ويأخذ تعويضا. وزاد موضحا “هذه الخيارات نضعها أمام اللاجئين وهم يختارون، تريد أن تقعد هنا أهلا وسهلا، تريد أن تقعد هناك أهلا وسهلا، تريد أن ترجع لتحمل الجنسية الإسرائيلية، لا تريد أنت حر”.
ما ينبغي أن يُقال ابتداءً هو أن ما يعطل عملية التسوية ليس ملف اللاجئين، ولم يكن هو الذي عطلها في كامب ديفيد صيف العام 2000، ولو حُلت القضايا الأخرى، لما وقفت الأخيرة حائلا دون الاتفاق، والمبادرة العربية نفسها (بيروت 2002) لم تتحدث عن حق العودة، وإنما عن حل متفق عليه لقضية اللاجئين، فيما يعلم الجميع أن ثمة إجماعا صهيونيا على رفض تجسيد حق العودة إلى الأراضي المحتلة عام 48، بل إن قصة الدولة اليهودية هي نوع من تشريع التخلص من فلسطينيي عام 48، فضلا عن مقترحات طرحها كيري وسواه تتحدث عن عملية تبادل للأراضي والسكان يترتب عليها نقل فلسطينيي المثلث إلى ولاية السلطة مقابل أراضٍ في الضفة الغربية.
قضية القدس أيضا تحظى بإجماع عام في الأوساط الإسرائيلية، وكل العروض المغرية التي قدمها المفاوض الفلسطيني للصهاينة لم تجد آذانا صاغية (قال عريقات لليفني بحسب وثائق التفاوض إنه يعرض عليها أكبر أورشليم في التاريخ اليهودي، فرفضت مناقشة الأمر).
عودة إلى ملف اللاجئين. هل يبدو الأمر بذلك التبسيط الذي يتحدث عنه عباس؟ أم أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد “بروباغندا” أمام شباب يحلو لهم التصفيق لزعيم كانوا يقولون فيه ما لا يقال أيام “الزعيم الرمز الراحل- عرفات”؟
عباس يدرك أن لا عودة إلى الأراضي المحتلة عام 48 (سمّاها إسرائيل!!)، وليفني في الوثائق إياها رفضت حتى إعادة 10 آلاف، وقالت إن إعادتهم كان رأيا شخصيا من أولمرت، وأن رقم من سيعودون هو “صفر”.
أما الخيارات الأخرى، فهي المتاحة، مع قيود ستبقى قائمة فيما يتعلق بالعودة إلى مناطق السلطة في المراحل الأولى من التسوية، لأن شرط ذلك أن يتأكد الصهاينة من استتباب الأمر تماما لصالح منطق التسوية.
وفيما سيبقى أكثر اللاجئين حيث همْ، بمن في ذلك حوالي ثلث سكان الضفة والقطاع، فضلا عن الأردن والغرب عموما، فإن المشكلة هي في لبنان، وربما سوريا بعد التطورات الأخيرة، وهم الذين يعرض عليهم عباس كندا، وربما أستراليا كما يتضح من الكلام المتداول، وأضيف إلى ذلك التعويض (من سيدفع ذلك التعويض؟).
هكذا ينتهي نضال الشعب الفلسطيني إلى هذا المنطق السقيم الذي يوزع الفلسطينيين على أرجاء الأرض، بما في ذلك أقصاها في كندا وأستراليا. يحدث ذلك فيما يوافق عباس على بقاء الكتل الاستيطانية الكبيرة في الضفة الغربية في مكانها، هي التي تأخذ أهم الأراضي وأغناها بالمياه، وفيها يسكن مئات الآلاف من المستوطنين الذين يحمل أكثرهم جنسيات أجنبية.
اليهود الذين يحملون جنسيات أجنبية يحتلون أرضنا ويعيشون فيها، بما فيها المحتل عام 67، بينما يُراد للفلسطينيين؛ إما أن يبقوا حيث هم، وإما أن يذهبوا إلى أقاصي الأرض، ليفقدوا بعد جيل أو جيلين هويتهم، بينما يعود اليهود، ولا يزال بعضهم يعود من الدول الغربية إلى فلسطين.
مناطق السلطة لن تكون قادرة على استيعاب من هم فيها في ظل التسوية المقترحة، وبالتالي، فإنه حتى بعض اللاجئين فيها وسكان المخيمات قد يختارون الرحيل إذا ما أتيح لهم ذلك، وهي مهزلة ما بعدها مهزلة.
هل ثمة قائد يفعل ذلك مع شعبه، ومع قضيته؟ إن فلسطين التي تعامل معها عباس على هذا النحو هي من أهم بقاع الأرض، ليس قدسية ومناخا وحسب، بل حتى من حيث المعطيات الأخرى، فالغاز في المتوسط يجعلها من أغنى الدول قياسا بعدد السكان، مع أنها بالسياحة وحدها يمكنها أن تعيش مثل سويسرا.
لا يمكن أن يكون هذا المنطق منطق قائد حركة تحرر، ولا أدري كيف يستمع أولئك الشبان إلى مثل هذا الكلام، ثم يمررونه، فضلا عن التنازلات الأخرى التي فضحتها وثائق التفاوض؟ إنه منطق الحزبية والقبيلة الذي يتفوق أحيانا على منطق الوطن ومصالحه العليا.
لن يمرّ ذلك كله، وحتى لو مرّ في مراحله الأولية، فسيظل عابرا، وفلسطين ستعود إن عاجلا أم آجلا إلى أصحابها، وسيعود إليها أهلها، بمن فيهم الموجودون الآن في كندا وسواها، فهي ليست صحراء قاحلة، بل هي الأرض التي اقتتلت عليها إمبراطوريات الكون على مدى القرون.