ربما يتفق معي الكثير من القراء بإرتباط شهر حزيران في عقولنا ونفسياتنا العربية بالهزيمة , لنتذكر كيف كانت جيوشنا مع الفصائل الفلسطينية على مرمى حجر من “تل أبيب” . إهتزت مشاعرنا وقلوبنا من المحيط الى الخليج بحرب سريعة لم تتجاوز ستة أيام ، وصدمنا بقدرة الكيان الصهيوني على إحتلال اراضي بلغت أضعاف مساحة الكيان يومها، وتساؤلات ودهشة عميقة من إنسحاب الجيوش العربية وقتها . حصل هذا منذ أكثر من خمسين عاما ..وأصبح الصراع العربي- الصهيوني محصور فقط في أروقة الأمم المتحدة وقراراتها وقانونها الدولي ومصالح القوى العظمى والإعتراف بما يسمى إسرائيل .
وها نحن اليوم في حزيران 2020 نحاول إجترار ما يسمى بنكبة الضم , بل نبالغ بالصمت والتمنيات, ونقف في البازار السياسي بلا اي ذاكرة . وننسى أو نتغافل عن الحقيقة البسيطة لعقود، وأن الإسرائيليين يعرفون ضم الأغوار بإسم “خطة ألون”، وقد تم وضعه في أعقاب حرب الأيام الستة عام 1967 من قبل وزير العمل آنذاك إيغال ألون . لتنتهي المقارنة هنا، فإسرائيل وقتها ليست ذاتها في 2020 , لكن الى اي مدى يمكن أن نقتنع بذلك؟.
الخطة ليست مشروعًا جديدًا وإنما نهاية لمسرحية كبيرة مورست ضد القضية الفلسطينية، وأصبحت المشكلة الظاهرة تتعلق بضم “الأغوار“، لكن المشكلة هي إحتلال وإعتراف بهذا الاحتلال على الأرض.
الضم أمر صادر من واشنطن وليس من تل أبيب ومن يمسك بزمام الملف هو مايك بنس نائب الرئيس الأمريكي الأنجيلي المتشدد , وبدعم من الإنجليين ولكسب ودهم في الإنتخابات الرئاسية المقبلة ليكسبها ترمب مرة ثانية , وهذه الطائفة تريد التصعيد لقناعات عقائدية . اذ لديهم تعاليم “التدبير الإلهي” حيث يجب ان تكون إسرائيل كلها لليهود وعاصمتها القدس والمعركة الفاصلة التي يُخيَّر فيها اليهود بين إتباع المسيح وبين القتل , وربما بناء مستوطنة تحمل أسم ترمب هي لمحة بسيطة لمعنى العلاقة بين الأطراف الثلاثة .
وربما التناقض إن الشخصيتين السياسيتين اللتين ستستفيدان من خطة الضم هما ترامب وبيني ساندرز. سوف يحصل ترامب على مثال آخر لدعمه القوي لكيان إسرائيل ليعرضه على الإنجيليين، أما ساندرز فسوف يحصل على مثال آخر على مدى بشاعة كيان إسرائيل في عهد نتنياهو.
نتنياهو الذي إختار التدرج الزمني في الضم مع ما يعانيه الكيان من تدهور إقتصادي وتفكك سياسي وأحزاب دخانية , ففي الداخل الإسرائيلي يرى البعض خطة نتنياهو تشبه تماما خطة آرييل شارون أحادية الجانب بفك الإرتباط مع غزة 2004 بعد أن واجه سلسلة من التحقيقات في تهم بالفساد والرشوة وقضية الجزيرة اليونانية . والبعض الآخر، ممن يعملون معه في هذا الملف، مقتنعون بأنه متعطش للسيادة، حيث يعتبر الضم فرصة تاريخية لتحديد حدود إسرائيل الشرقية.مستحضرين تصريح نتنياهو عام 2011 ، تحديدًا عن أهمية وجود الجيش الإسرائيلي في غور الأردن لمدة 40 سنة..
ونبين هنا إستطلاع جديد أجراه معهد ماغار موخوت الإقليمي أن 68٪ من اليهود يؤيدون خطة الضم. ووجد إستطلاع آخر أجراه مؤشر الصوت الإسرائيلي أن 50٪ من الجمهور يؤيدون تطبيق الخطة.الجدير بالذكر أن هذا الإستطلاع أظهر أن 58٪ من الإسرائيليين يعتقدون أن الفلسطينيين سيشنون إحتجاجات وعمليات عنف ضد الضم .
كذلك فيما يخص الأمن فإن شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (أمان) تبحث في تبعات الضم على اتفاقية السلام بين إسرائيل والأردن وعلى استقرار الأردن، وكيف سيؤثر الضم على خطوات إيران في سورية ولبنان وغزة، وكيف سيكون رد فعل السعودية ودول الخليج، وماذا ستفعل السلطة الفلسطينية، وما ستفعل حماس والجهاد الإسلامي، وبالأساس كيف سيكون رد فعل الشعب الفلسطيني، وهل ستستأنف العمليات المسلحة وكيف سيكون حجمها.؟؟؟
في مقابل ذلك نجد الواقع العربي مختلف تماما عن التصاعد الحاصل ومنغمس بالأزمة الاقتصادية، والتحالفات المتصدعة مع غياب الزعامة الحقيقية , اذ تواصل بعض دول الخليج العربي التعبيرعن دعمها العلني للسلطة الفلسطينية، مع الحفاظ بهدوء على علاقاتها الاقتصادية والأمنية والتطبيعية مع (الكيان)، مصر لها حسابات مختلفة , ايران وحزب الله وحماس ايضا لهم حسابات اخرى , ودول المغرب العربي كل دولة مغيبة بالدسائس الدائرة بداخلها.
وتركيا لها ساحتها في سوريا وليبيا ومن ثم في اليمن , و الإتحاد الأوروبي ليس وسيطا سياسيا قويا يعتمد عليه , كذلك روسيا، التي لديها بعض العلاقات البراجماتية مع (إسرائيل)،والتي عملت على تعطيل انشاء دولة فلسطينية ستراوغ بوضع نفسها بشكل متزايد كوسيط خارجي للمفاوضات، واللعب بالورقة مع امريكا .
في ضوء ذلك ما هي الخيارات أمام الدولة الأردنية ؟ التحالفات السياسية والعربية والإقليمية والدولية تتغير يوما بعد أخر وفقا للبعد الجيوسياسي والمصالح بين الأطراف جميعها , فصديق الأمس هو عدو اليوم ,والتغيير السياسي مطلوب بشدة في هذه المرحلة . التغيير داخليا وخارجيا وتحالفيا ، والخيارات متعددة لكن آلية التطبيق يفرضها الواقع , يتوق البعض بشكل خاص إلى إلغاء صفقة الغاز الطبيعي مع الكيان أو تجميد إتفاقية السلام ويؤيد آخرون خطوة أكثر رمزية، كقطع التمثيل الديبلوماسي مثل سحب السفير الأردني من تل أبيب أو إتخاذ خطوات أخرى لخفض مستوى العلاقات الدبلوماسية، ولكن ليس قطعها بالكامل. وهو ما حدث في أزمات سابقة، ولكن سوف ينظر إليها الجانب الدولي والصهيوني على أنها بلا فائدة حاليا .
يرى فريق آخر دعم تحرك فريق دبلوماسي مكثف يهدف إلى حشد المعارضة للضم عبر العالم الإسلامي والولايات المتحدة، ليسعى الأردن إلى ضمان معارضة الكونجرس من كلا الحزبين للضم. وربما تستخدم إدارة ترامب حق النقض ضد أي إدانة جادة للضم في الكونجرس أو في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وعليه، تستغرق الدبلوماسية وقتًا طويلًا وتفتقر إلى رد حازم.
وفريق يرى ان الورقة الأهم هي وقف التعاون الإستخباري والأمني وكل أشكال التطبيع مع هذا الكيان على المستويين الرسمي والمحلي وتفعيل الرفض الشعبي والذي يعلو صوته عالميا برفض العنصرية من مينابوليس الى لندن الى فرنسا الى نظام الأبرتهايد العنصري .
وفلسطينيا , على السلطة الفلسطينية أن تعي إن الكيان ينتظر إحتضارها ويوسع الإنقسام الداخلي و لن يمرر وهم التصريحات بإنهيار نهائي لإتفاقات أوسلو، و البالونات المشتعلة من غزة و تسريع وتيرة إنتقال الأموال إلى القطاع، والتهديد العلني من السلطة و”فتح” و “حماس” و قطاع غزة.
خلاصة القول ، الوهم الأخطر الذي يجب تبديده عربيا ، الإعتقاد بأن الضم يمكن مكافحته بالعمل الدبلوماسي فقط. بل أن الحزم والحسم والقوة والضغط والجهد الوطني هما الأكثر نجاعة , فالمسؤولية هائلة . لكن الطريق واضح . ولا ننسى أن السياسة تعني التدرج في تحقيق الأهداف وفن تحقيق أفضل الممكنات.