من الطبيعي وبعد كل جريمة إنتحار في غزة , أن ينقسم الشارع الفلسطيني الى فريقين وكالعادة , الفريق الأول يعطي مبررات كثيرة للمنتحر من خلال تعاطفه معه والشعور به , متذرعاً بذلك بقسوة الحياة ومشقة العيش فيها , والفريق الثاني لا يعطي أي مبرر للمنتحر ويحمله المسؤولية الكاملة عما قام به , ومن المؤكد أن الفريقين الأول والثاني من الناس , يعلمان جيداً ما هو قول الشرع في الإنتحار , ولكن ما يهمهم في الأمر هو إيصال رسالة معينة من خلال وصفهم للجريمة , فالفريقين المختلفين من الناس يتفقان على وجود "الفقر والقهر والظلم" في غزة كما هو موجود في العالم كله , ولكن إختلافهما ينحصر فيما إذا كان المنتحر كان قادراً على مواجهة الفقر والقهر والظلم , أو لم يقدر على ذلك , والغريب في الأمر أن المنتحر وبعد إنقضاء أجله , يترك وراءه وصفين متناقضين تماماً على ألسنة الناس , فمن الناس من يقولون أن المنتحر جبان لدرجة أنه قرر الهروب من معركة الحياة ومتاعب الدنيا , ومن الناس من يقولون أن المنتحر يمتلك الشجاعة لدرجة أنه قرر إزهاق روحه بيده , فعلاً إنهما وصفان متناقضان تماماً , وبحاجة الى التفسير العميق..
كان من الممكن أن أستغل ككاتب ظاهرة الإنتحار في غزة , كي أستعرض في مقالي كمية القهر والفقر والظلم والفساد والتي لا يختلف عليها إثنان , وكان من الممكن أيضاً أن أستعرض في مقالي أداء حكومة إشتيه والتي من المفترض أن تكون في غزة منذ اليوم الأول من تشكيلها , وأن أستعرض أيضاً أداء حكومة الأمر الواقع في غزة , والتي لم تقدم لحتى الآن علبة حليب أو رشيتة دواء أو كيس طحين لمن هم تحت حكمهم , ولكن من باب الأمانة أرى أن الموضوع أكبر من ذلك بكثير , وبحاجة الى صحوة دينية تسبقها الصراحة , فظاهرة الإنتحار والمنتشرة في غزة , لا تحتمل المجاملات , ولا تحتمل تحويلها لأمور سياسية بعيدة عن الدين , فالسياسة هي جزء من الدين , ولا يجوز فصلها إطلاقاً , فعندما تنتشر ظاهرة خطيرة كالإنتحار في غزة , يجب أن نتحدث بالشريعة أولاً , لأن الحديث في الشريعة سيشمل الحاكم والمحكوم , ويجعلهما سوياً في خانة المحاسبة والمسائلة , وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" صدق رسول الله..
أما بالنسبة للتوصيف الشرعي للمنتحر , فغالب الناس يعتقدون أن المنتحر يموت كافراً , وهذا بالطبع خطأ , والسبب هو عدم بحث وإهتمام عامة الناس في أمور دينهم , ورغم هذا الإعتقاد الخاطئ والذي من والمفترض أن يخيفهم أكثر وأكثر , إلا أنهم يفضلون وصف المنتحر بأنه لم يعد يطيق قسوة الحياة , بدلاً من وصفه بأنه مرتكب كبيرة نتيجة ضعف إيمانه , فالمنتحر وبحسب إجماع العلماء وبدليل من القرآن والسنة , يموت قاتلاً لنفسه والتي حرم الله إلا بالحق , وليس كافراً , ولكنه مرتكب كبيرة من الكبائر وهي القتل , أما تعريف الكفر فهو "إنكار المعلوم من الدين بالضرورة" يعني منكر الصلاة والصيام والزكاة والحج فهو كافر , وكذلك منكر القضاء والقدر والآخرة والحساب والكتب والرسل والملائكة والجن وكل ما يتعلق بوجود الله ووحدانيته فهو كافر , وبحسب هذه التصنيفات الشرعية فالمنتحر يموت وهو قاتل لنفسه وليس كافر .
في نهاية المقال سأنضم ككاتب الى الفريق الأكثر تشدداً في موضوع الإنتحار , وبكل قناعة أقول أن المنتحر خالف قول الله تعالى "ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما" صدق الله العظيم , ورغم الفساد والإنقسام والظلم والقهر والجوع الذي نعيش فيه كفلسطينيين , فلا يجوز وبأي حال من الأحوال أن يقدم الشخص المسلم البالغ العاقل على الإنتحار .