دَفَقَت جائحة كورونا، عدا على طبقة الأوزون، بمُنْقلَباتٍ وخيمة أذاقَت الإنسانيّة مُرَّ تداعياتها حتّى فاضَ من جوانِبها، لكنّنا لم ننكفِئ عن هذا المرّ (نُنَوِّخْ مَطايانا) ونتفرَّج، بل شَدَدنا أزْرَنا وعَزْمَنا بالتفكير الاستباقي والاستراتيجي والتعاون والصّبر نبحثُ بين أكْوامِ هذا المُرّ عن نقاطِ قوّةٍ وفرصٍ حتّى وجدنا عُروقاً فيها ستوفّر أَوْعِيتُها إمدادات نَماءٍ استراتيجيّة لقطاعات الزراعة والأدوية والمستلزمات الطبيّة والصناعات الغذائية وغيرها ومخزوناتها كلّها، وإمداداتٍ قِيَميّة لعلاقاتنا تُصفّي منها علائِقَ كرهناها وتَستردُّ لها التي خَنَقناها بأيدينا، وإمداداتٍ حراريّة لعاداتِنا تُنقّي منها جُزَيئات شوائِبها، ولأنماطِ معيشتنا تعالج فيها اختلالاتها.
حتّى في كَوْم مُرّ عَودة بعض المغتربين الأردنيين، بعدما تغرّبوا لسنوات كانوا فيها لأُسرِهم «شَيّالين الِحْمول الثّقيلة» عَصَباً وأعصاباً، فقد وجدنا ببحثنا فيه عُروقاً وفّرت أوعيتُها إمدادات فخرٍ واعتزازٍ بهم لدى كلّ من شاهدَهم وسَمعَهم يَحمدون الله عزّ وجل على عودتهم لبلدهم سالمين، ويَشكرون دول اغترابهم بكلماتٍ سامية المعاني على حسن استضافتهم وحضاريّة توديعهم بما يليقُ بهم ويُرضيهم، وبشُجونٍ ودموعٍ على فراقها.
هذه الشّجونُ والدموعُ ذكّرتني بعشرات الحالات المُشرِّفة الذين عرفتُهم عن قُرب من المغتربين الأردنيين بدول الخليج الشقيقة وبثّوا شُجونَهم وذرفوا دُموعَهم في صالات مطاراتها ومنافذ حدودها البرّية كَمَدَاً على فراقها، وقد شَهِدتُ انتماءهم وتفانيهم في عملهم غاية وِسعِهم وإدراكهم أن (خَظْ المَيْ ما يِطلّعْ زِبْدَه) فكانوا منظومة حياة متكاملة بعمق إيمانهم وثقافتهم وأصالتِهم ونُبلهم ووفائِهم وكريمِ سجاياهم وتصالحِهم مع أنفسهم، وباحترامهم الأعراف والعادات والتقاليد فيها، وبالتزامهم القوانين والأنظمة المرعيّة والتعليمات الناظمة والنّافذة للإقامة والعمل، وبالتميّز في كفاءتهم وكفاياتهم وإخلاصهم وأنماط تفكيرهم وتحمّلهم ضغوط العمل ودفعهم للطاقة النفسيّة والعقليّة والحركيّة ببيئة عملهم، ليُسهموا مع أبناء هذه الدول الشقيقة في تحقيق إنتاجيّة فائقة للوصول إلى النجاحات المتميّزة والمُبدعة التي تَنشِدها رؤاها وخططها وبرامجها، كما أنهم جعلوا منظومة حياتهم هذه أمانة في أعناقهم خدمة لبلدهم بتدوينهم في سجلات التعاقد الخاصة بالموارد البشريّة الأردنيّة انطباعات مميّزة وسلوكات حضارية تفتحُ آفاقاً جديدة أمام آخرين من أبناء البلد للتعاقد فيها مستقبلاً؛ فبهؤلاء وبِمَن على شاكِلتهم من المغتربين الأردنيين نرفَعُ الرأس، ولَهم نَنْهِرُ الشُّكرَ أنهاراً أنهاراً.
أخيراً، ستبقى ذكرياتي في وطني الثاني السّعودية تَسكنُ الحَشا، ذكرياتٌ تنفّستُها مع أهلها (الِمصَوَّتين بالطّيب) وبِـ (وقفاتِهم اللي تِشفي الِكْبُود العَليلَة) وفي (وفائِهم اللي تَوَتَّد في طريقي غُروز غُروز).
ختاماً، «حِنّا ما نقولْ بَعَدْ ما ناكِلْ وَنِتْمَلَّحْ الأَكِلْ مُو امَّلَّحْ».