على الجانب الآخر من معادلة السياسة الداخلية الإسرائيلية، أي الجانب المعارض، كانت الجولات الانتخابية الثلاث التي جرت خلال عام واحد مضى، محاولة للإطاحة برئيس الحكومة المتربع على عرش مكتب رئيس الوزراء في شارع بلفور بمدينة القدس، الهدف الجامع لكل أحزاب المعارضة المتناقضة في توجهاتها السياسية، ورغم أن عدم تمكن رئيس الحكومة المخضرم من تشكيل حكومة يمينية بنتيجة كل تلك الجولات، بما فيها الأخيرة، إلا أن معارضيه أيضاً، بالمقابل لم ينجحوا في الإطاحة به، رغم كل العوامل المساعدة على ذلك، بما فيها ملف القضاء الذي وجه ثلاث لوائح اتهام ضد الرجل.
من هذه الزاوية بالتحديد، اعتبر المراقبون وحتى أحزاب المعارضة موافقة بيني غانتس خصم نتنياهو خلال الجولات الانتخابية الثلاث، على حكومة الشراكة مع الليكود خيانة لناخبي "أزرق - أبيض"، وهذا ما يلاحظ حالياً في استطلاعات الرأي التي تمنح "أزرق - أبيض" مقاعد محدودة لا تتجاوز ثلث أو حتى ربع ما حصلت عليه في الجولات السابقة، ذلك أن حكومة الشراكة أبقت على نتنياهو في مكتب رئيس الوزراء، ولم تلق به إلى قارعة طريق العمل السياسي، كما كان يأمل معارضوه.
بتفسير إقدامه على خيانة ناخبيه، علل غانتس خطوته تلك بتجنيب البلاد انتخابات رابعة مكلفة، كذلك بدافع التركيز على مواجهة جائحة "كورونا" التي عصفت بالعالم، ومنه إسرائيل أيضاً، أي أن الجائحة كانت مدخلاً لإنقاذ نتنياهو من الغرق السياسي، بعد جرّه البلاد لثلاث جولات انتخابية، وفشله في تشكيل حكومة يمينية، رغم أن اليمين حاز كما هو معتاد منذ سنوات عديدة على الأغلبية البرلمانية الكافية لذلك، لكن إدارته السيئة لتحالف أحزاب اليمين مع الحريديم، كانت السبب في خروج حزب "إسرائيل بيتنا" من ذلك التحالف.
الجديد في الأمر هو أن الجولة الأولى من "كورونا" التي كانت سبباً في دفع غانتس للشراكة مع نتنياهو، يمكن أن تكون السبب في جولتها الثانية في الإطاحة به، فرغم أن نتنياهو مارس الضغط على شريكه غانتس من أجل تطويعه تماماً لصالح سياساته اليمينية المتطرفة، إلا أن انطلاق الحراك الشعبي المطالب بتنحي نتنياهو وعزله، يغير كثيراً من معادلة الصراع الداخلي بين أحزاب اليمين والمعارضة.
ويبدو أنه كما حدث مع عدد من الدول العربية، قبل عقد مضى من السنين، تدخل إسرائيل هذه الأيام في "ربيع شعبي"، يمكنه أن يجتاز بها واقع تحكم اليمين بمقاليد السلطة، اليمين الخاضع لسطوة المستوطنين، وتحكم الحريديم، الذي يغلق الدولة، ويدفعها لمربع التطرف والتزمت، ويضعها على أبواب التحول لدولة فصل عنصري، وهي تقترب كثيراً من اتخاذ قرار ضم أجزاء من الأرض الفلسطينية المحتلة، كما يريد نتنياهو بالذات.
لا أحد كان يتوقع، قبل عشر سنوات مضت، أن ينجح الاحتجاج الشعبي في بلد عربي محكوم بنظام الفرد المستبد، في إسقاط النظام، خاصة أن الدول العربية ليست ديمقراطية، بل محكومة بأجهزة قمع أمنية، لكن خلال أيام معدودة كان نظام زين العابدين بن علي يتهاوى في تونس، ويتبعه نظام حسني مبارك في مصر، لذا فإن استمرار الحراك الشعبي في إسرائيل، ليس بعيداً عن الإطاحة بنتنياهو، فيما الحراك الشعبي الأميركي يمكنه أن يمنع إعادة انتخاب ترامب أيضاً، ذلك أن سياسة كل من نتنياهو وترامب في مواجهة "كورونا" أثبتت انحيازهما للأثرياء، على حساب حياة الفقراء من المواطنين.
على أقل تقدير، يعيد الحراك الشعبي الإسرائيلي، الاعتبار لمعادلة التوازن الداخلي، فهو يضغط على نتنياهو ويشل قدرته على التصرف بحرية فيما يخص السياسة الداخلية وحتى الخارجية، وليس صحيحاً، أنه قادر على الإفلات من أزمته بشن حرب خارجية، أو بالإقدام على اتخاذ قرار إشكالي من نمط قرار الضم، لأنه ببساطة ليس حاكماً عربياً مطلق الصلاحيات، بل أولاً وأخيراً يقود دولة مؤسسات، اعتمد فيها شريكه المناكف غانتس على مؤسسة الجيش وهي أقوى مؤسسات الدولة، فيما يخص قرار الضم، حين وصل الجميع ليوم الأول من تموز الحالي.
في ظل هذا الحراك الشعبي، بات نتنياهو يفكر ملياً في الذهاب، ولو من باب التهديد والضغط على غانتس، إلى الانتخابات، فرغم أن أسهم "أزرق - أبيض" في الحضيض، كذلك مؤشر حزب العمل يشير إلى عدم قدرته على تجاوز نسبة الحسم، إلا أن معادلة الحكم في إسرائيل، ليست بين حزبين، بل بين معسكرين، ولا شك أن الحراك يعيد الدماء إلى عروق اليسار الليبرالي في إسرائيل، ما يعني أن فراغ "أزرق - أبيض" والعمل، لن تشغله ميرتس مثلاً، ولا حتى "ييش عتيد"، لكن قد يظهر حزب انتخابي يمثل الحراك بالتحديد، ليكون خصم اليمين في أي انتخابات قادمة.
أخيراً لا بد من الإشارة إلى مدى تأثير السياسة الفلسطينية، الخاصة بالعلاقة مع إسرائيل، على الوضع الداخلي الإسرائيلي، فكما كان ظهور الكفاح المسلح سبباً في ظهور حزبين كبيرين في سبعينيات القرن الماضي، وكما كانت انتفاضة 87 سبباً في فوز اليسار عام 92 ومن ثم توقيع اتفاق إعلان المبادئ، تلقي سياسة ضبط النفس والكفاح الدؤوب المثابر للقيادة الفلسطينية بآثارها على الكفاح الشعبي الإسرائيلي، ذلك أن شل قدرة اليمين في نهاية الأمر عن تحقيق أهدافه المجحفة فيما يخص الحقوق الوطنية الفلسطينية، يظهر للشارع ومن ثم لليسار الإسرائيلي المحبط ، ضوءاً في آخر نفق اليمين المظلم، الذي لا يعتدي على حقوق الفلسطينيين وحسب، بل على الحقوق المدنية للإسرائيليين أيضاً.
هكذا تتشابك دوائر الكفاح ضد التطرف وإلغاء الآخر، إن كان على الصعيد الخارجي أو الداخلي، وكما هو حال الصراع في العالم، الذي يسير بهدوء ودون صخب، تسير الصراعات الداخلية، ما يعني أن من يضحك أخيراً يضحك كثيراً، أو أن من يصبر ينال. المهم هو أن يتواصل الكفاح القانوني والديمقراطي، ليتحقق مزيد من العدالة في العالم، وفي هذا الركن الصاخب منه بالتحديد وعلى وجه التخصيص.