تأخّر كثيراً اجتماع الأمناء العامين لفصائل المقاومة الفلسطينية، لكننا سنظل نقول أن تأتي متأخراً خيراً من أن لا تأتي أبداً. على أن هذا التفاؤل الذي يشير إليه هذا القول المأثور، مرهون بالنتائج التي يمكن أن يخرج بها هذا الاجتماع، الذي لا يقتصر على حضور الرئيس والأمناء العامين. عدد حضور الاجتماع، لا يجعله أكثر من ندوة، أو ورشة عمل، يمكن أن يصدر عنها بيان عام لا يرقى إلى مستوى ما تتطلبه المرحلة، ما قد يجعله أقرب إلى اجتماعات الجامعة العربية، ذلك أن تأخير الحوار إلى هذا الوقت لم يكن من دون ثمن يدفعه الفلسطينيون.
حين نتساءل عن الدافع الذي جعل هذا اللقاء على هذا المستوى بعد أن تعثّر لسنوات، يمكن أن نتوقع النتائج المرتقبة. نشأ هذا الدافع بعد التطور الخطير الذي تمثل في الإعلان عن ما يسمى اتفاقية سلام بين إسرائيل ودولة الإمارات العربية المتحدة برعاية كاملة، بل بتصميم من قبل الإدارة الأميركية، والذي يشكل بداية لانهيار جبهة التطبيع العربي مع إسرائيل.
ما يجعلنا غير متفائلين بأن الاجتماع سيشكل خطوة عملية نحو ترميم الأوضاع الفلسطينية، هو أن الفلسطينيين وقضيتهم، مروا ومرت معهم قبل هذا التطور، بجملة من الاعتداءات الأميركية الإسرائيلية على الحد الأدنى من الحقوق التي ترتبها الأمم المتحدة، غير أن الفلسطينيين في مواجهة ذلك، لم يتحدوا إلاّ على موقف الرفض لكل تلك الاعتداءات والسياسات الخطيرة.
طويل ومرير الوقت الذي مضى على أزمة العمل الوطني الفلسطيني التي لم يعد الحديث عنها يتعلق فقط بالسياسات العامة والمراهنات السياسية المختلفة، وتعثّر خط البحث عن تحصيل الحقوق من خلال المفاوضات وإنما يمتد الحديث إلى الانقسام الممأسس والراسخ، وغياب الرؤية الوطنية الجامعة، وانهيار المشروع الوطني الفلسطيني، وهشاشة أدواته وآليات عمله، فضلاً عن التطورات المرعبة التي تجتاح الأمة العربية، وصراعات القوى الإقليمية عليها.
يمكن أن نقول للقيادات المجتمعة اليوم، لقد كان واضحاً منذ زمن السياق العام الذي يتجه نحو أوضاع ومكانة القضية الفلسطينية، ما يجعل ما يجري اليوم من تطبيع مقروءاً قبل أن يحدث، ومقروءاً ما سيحدث غداً وبعد غد.
اليوم يجتمع الفلسطينيون على هذا المستوى القيادي الرفيع، من دون وساطات عربية أو غير عربية، لم يكن غيابها عبثياً، وإنما يشكل هذا الغياب جزءاً من تداعيات السياق العام لما يجري في المنطقة. ويجتمع هؤلاء من دون مرجعية وثائقية، إذ لم يأت أحد على اتفاقيات المصالحة، ولا على تفاصيل إجراء المصالحة كما اعتدنا على ذلك في حوارات الزمن الماضي. نفترض في هذه الحالة أن أجندة الاجتماع مفتوحة على البحث السياسي العام، والمواقف التي ينبغي أن يجمع عليها الفلسطينيون في مواجهة «صفقة القرن»، وعمليات التطبيع. ثمة الكثير من الكلام الذي علينا أن نبتلعه مؤقتاً، فيما يتعلق بمسؤولية هذا الجيل من القيادات الفلسطينية إزاء ما وصلت إليه الأمور، ولكننا نتطلع إلى أن يشكل هذا الاجتماع بداية لحوارات عميقة، لا تحتاج إلى كل هذا الحضور، وتستهدف مراجعة التجربة السابقة بكل ما لها وعليها، وما عليها أكثر مما لها بكثير، لا يمكن أن نتطلع إلى إنجاز رؤية فلسطينية جامعة تتضمن آليات الخروج من هذه الأزمة العميقة، أو تؤمّن الخروج المتدرّج منها، من دون مثل هذه المراجعة الموضوعية الجريئة والنقدية في مثل هذا الوقت وفي ظل الظروف الموضوعية، يلزم قراءة استراتيجية عميقة، لطبيعة المرحلة، التي لم يعد فيها مجال للمراهنة على المفاوضات أو أي مبادرات يمكن أن تسفر عن عملية سلام على أساس قرارات الأمم المتحدة ورؤية الدولتين وفق المفهوم الفلسطيني. التطورات الراهنة تقول ودائماً لكل هذه المراهنات والأطروحات، وان كل ما يمكن أن يصدر من خطابات تذكّر بالعودة إليها ليس إلا عمل علاقات عامة لا أكثر ولا أقلّ.
الحقوق الفلسطينية التاريخية والمرحلية، أصبحت خلف الزمن بفعل التحالف الأميركي الصهيوني، وانهيار الجبهة العربية، وضعف إرادة القوى الدولية الأخرى، التي لا تزال تتمسك بسلام الدولتين. هذه هي الحقيقة المُرّة سواء وقع الضم، أم تأجّل، فإن إسرائيل ماضية في تنفيذ مخططاتها الصهيونية التوسعية، من دون توقف ومن دون عقبات.
الأشهر المتبقية من عمر إدارة ترامب، تحمل الكثير والمزيد من المخاطر على القضية والحقوق الفلسطينية؛ أما إذا أعيد انتخابه مرة ثانية، فإن أمام الفلسطينيين سنوات أكثر فقراً وأشدّ خطراً.
يختصر جاريد كوشنر محصلة التطورات حين يقول إننا لن ندفع أي ثمن للفلسطينيين حتى يعودوا إلى طاولة المفاوضات، أي ان عليهم أن يأتوا صاغرين، وربما يتوسلون حتى يجدوا من يتفاوض معهم.
اجتماع اليوم ينبغي أن يرد على نحو قاطع على كوشنر بأن أبواب المفاوضات قد تم إغلاقها منذ زمن، وأن الفلسطينيين لن يكونوا آخر من يجلس على مائدة الطعام بعد أن يشبع الآخرون.
الرؤية المطلوبة وقد أكون مبالغاً أو متجنياً على طبيعة الواقع والوقائع ينبغي أن تستند إلى أنه لم يعد ثمة صراع على أمتار، أو حقوق مجتزأة وإنما كل الأرض وكل الحقوق. نفهم أن ثمة تعقيدات كثيرة تحول دون مثل هذا الانقلاب الثوري، ولكن لا بأس من الاتفاق نظرياً وحتى لو من دون إعلانات، على أن يتم الاتفاق على «خارطة طريق» متدرّجة في التحول من الواقع القائم إلى الواقع المأمول.
إن كان هذا هو سقف المطلوب، بما يقتضي من إجراءات وتضحيات وعمليات جراحية، فإن الحد الأدنى الذي ينتظره الناس، هو الانتقال التدريجي، الواقعي، نحو إنهاء الانقسام.
إن إنهاء الانقسام يشكل هزيمة مؤقتة ومهمة جداً للسياسات الإسرائيلية، هزيمة لا تدانيها الإعلانات الانتصارية التي يتبجح بعضنا بها بين الحين والآخر. لمرة واحدة فقط على القيادات أن تستمع لصوت الشعب، الذي يئس من شدة التجاهل والتهميش والتطنيش.
صوت الشعب واضح لا حاجة لأحد أن يدّعي تمثيله أو شرحه، وحين تستمع القيادات إلى هذا الصوت فإنها ستجد خلفها جيشاً من المناضلين، الذين يدفعون ثمن الحرية بلا حساب.
المعايير المطروحة أمام المجتمعين اليوم عالية، فلينتبهوا إلى أن الكلام المعسول لم يعد يخدع أحداً، أو يشبع جائعاً.