حينما كان يهرب الأصدقاء من الحر إلى جبال عجلون متنزهين فينتعشوا، كانوا ينصحوني بعضهم أن أستثمر في تعليب هذا الهواء الموشى بحليب الندى والطراوة. ولكنني في تسونامي هذا الشوب صرخت من حري: ألا من يخترع لنا جهازاً يستطيع أن يخزن لنا هذا الصهيد اللافح، كما نخزّن اللبن الجميد، والعنب الزبيب، والقطين من التين. عل وعسى نستغني عن وقودنا الغالي لمقارعة برد كوانين وشباط.
في الصبا كنا نلوذ إلى وادي العريس (وادٍ في كفرنجة/عجلون)، فنحبس الماء بالحجارة الكبيرة وأكياس البلاستيك؛ لنصنع بعد جهد جهيد بركة صغيرة تكون بحرنا الأزرق، فنمرح ونتبلبط كسمك مذعور، ونغوص من فوق أشجار الصفصاف ببراعة الضفادع، ثم إذا ما أخذنا الشوب واشتد، كنا نتسلل لنرخي أجسادنا في ظل الأشجار الباردة المزروعة بخاصرة الماء، منتظرين بفارغ الصبر أن تنكسر حدة الشمس لنعود للبلبطة.
في هذه الموجة الحرارية التسونامية غير المسبوقة، لم نفلح في قنص ظل يقينا، حتى في بحر اشتفينا الأخضر، ولا غابات أم الدرج في عنجرة عجلون، التي يجلب شجرها ظلال المطر من أبعد مدى، حتى أن صديقاً هرب إلى عجلون للابتراد فتحمّص وقال لي مغبوناً: أين (غزلان الندى) يا رمزي. ضحكت علينا؟!، ويقصد تلك الغيوم التي تتشكل فوق الغابات عندما تشتد الحرارة، فتلطف الأجواء وترطبها.
الاعتكاف في البيوت يظل سيد الموقف، فقد فرض الجنرال شوب منعاً للتجوال النهاري أكثر من الجنرال كورونا، وأحالنا إلى كائنات لا تقوى على وضح الشمس ومخارزها. فقمنا نبترد على الفيسبوك، وتعجبنا من صورة لصديقة قلت بيضة على بلاط الأرض على سبيل التدليل.
تبادلنا النصائح المضادة للاحترار، وأبرزها شرب اللبن الرايب. فيتدخل صديق متذمراً: لا عاجبكم شوب، ولا برد، وهو من رب العالمين. فكيف ستعجبكم الحكومات المتتالية وبرامجها وكيف سيعجبكم مجلس النواب بنسخته القادمة؟.
الاعتكاف في البيوت في ظل وارفات المكيفات، وبرد الفيسبوك، واللبن الرايب، كلها تجعلنا نتذكر ونحيّي أؤلئك الذين لا يأكلون خبزتهم، إلا انتزاعاً من فم الشمس. فتحية لرجال الشمس في صهيدها. تحية لمن لا يأكل خبزه إلا مضمخا بعرق جبينه.