عرفت السودان من ايام الدراسة الجامعية شاركت بمؤتمرين شبابين : الاول عربي والثاني اسيوي -افريقي. وعرفت السودان من الخرطوم، وحوضي النيل الابيض والازرق وتوحد شطريهما في قلب الخرطوم المشطور : البري والبحري.
السودان مجتمع طيب وبسيط، ومثقف. درجات الحرارة نهارا - طبعا ما نواجه الان في الاردن من موجة حر بالسودان طبيعي واقل من عادي - تجبرهم على السبات نهارا والسهر والمسامرة والنشاط ليلا.
مجتمع ثري بالسياسة والثقافة والتنوع. العمل السياسي عريق نقابيا وحزبيا. واقدم قادة اليسار العربي سودانيون، واقدم مناضلي العمل النقابي سودانيون ايضا. والشهيد عبد الخالق محجوب شيخ الشهداء، ومن مؤسس الحزب الشيوعي السوداني، وشخصية سياسية كان لها تاثير على حركة النضال والتحرر العربي. وقصة اعدامه مازالت خالدة في الوجدان السوداني والعربي .
والطيب صالح ابرز كتاب الرواية العربية المعاصرة، وصاحب رواية موسم الهجرة الى الشمال، وعرس الزين ودومة ود حامد. اعمال ادبية تتلمس من ورائها تضاريس الشخصية السودانية وهويتها التاريخية والاجتماعية، وصراع بناء الدولة والمجتمع السوداني الجديد. وتتعرف على النيل والخرطوم، اسرار الجغرافيا الغريبة والسودان العظيم.
سوداني عربي وافريقي تجزئة وتفرقة هوياتية ولدت حديثا في السودان. وما بعد انحصار المشروع القومي العربي، ووفاة جمال عبدالناصر، واجهاض مشروع اليسار الاجتماعي، وتسرب « الاخوان المسلمين « الى السلطة بعد ثورة البشير في بداية الثمانينات . بدات تدب في السودان خطابات ودعوات التفرقة والهويات الفرعية وحركات الانفصال ، والدعوة الى سودان افريقي.
اهل الجنوب وجدوا اللحظة المناسبة في ظل ضعف وتردي وانهيار للنظام العربي وتصدع في الامن القومي ليعلنوا انفصالهم. وكانت بداية تقسيم السودان وانفصال الجنوب بدعم ومباركة امريكية وبريطانية.
انهك السودان، واقتصاده ضرب ودمر، والجيش اصبح باضعف احواله. انقلابات عسكرية، وحرب اهلية، وتدخل اقليمي ودولي، كل يطرح رايه بما يجري في السودان، ويبحث عن موطئ قدم ونقطة نفوذ.
فترة حكم الرئيس السابق عمر البشير كانت هي الاطول، ودخل خلالها السودان في الفقر والانهيار الاقتصادي، والفساد وانهيار اجهزة الدولة. وما كانت عصا البشير ورقصته الشهيرة سواء «طبطبة « على جسد دولة ومجتمع منخور بالفقر والفساد والانهيار.
سقط حكم البشير في الموجة الثانية من حركات الاحتجاج العربية. خرج السودانيون غاضبون على نظام الحكم واسقطوه. وانهوا حقبة طويلة من حكم الفرد الاوحد، والتفرد بالسلطة.
ورثة حكم البشير من قادة المجلس العسكري الانتقالي قلبوا طاولة السودان الاقليمية والدولية. فالجنرال البرهان اول ما استقر حكم، وما بعد الثورة ذهب الى كينيا، ومن بعد التقى نتنياهو ووفدا امنيا اسرائيليا، وفتح باب التطبيع والعلاقات الاقتصادية مع تل ابيب، والحاق في ركب موجة التطبيع العربي الجديدة .
وقبل ان يكتمل مشروع البرهان وقادة المجلس العسكري نحو التطبيع واستدارة السودان للخروج من مجالها الحيوي الافريقي -العربي ، فالسودان تغرق اليوم في فيضان كبير . وفي ازمة السودان الاخيرة وغرقها انفضح المجتمع الدولي، ولم تهز دولة ساكنا لتقديم العون والاغاثة والمساعدة للسودان الغارق.
الخرطوم تعوم. والكارثة السودانية الطبيعية التي دبت في البلاد، امطار غزيرة وفيضان للنيل، وانهيار للسدود المتهالكة، وما ذهب من ارواح وانهيار لاجهزة الدولة. كانها جاءت في توقيتها، وكانها تراقب عواصف سياسية عاتية يمكن قراءتها في مقدمة سياسة ركوب موجة التطبيع المجاني.
لربما ان غضب الطبيعة حمل رسائل عسى ان يدركها قادة السودان. اين الحلفاء والاصدقاء الجدد؟ ولماذا لم تمد يد العون والاغاثة للسودان حتى الان؟
واين المجتمع الدولي وجامعة الدول العربية؟ واين منظمات الاغاثة والعون الدولية؟ واين العلاقات الطبيعة والاخلاق الانسانية الناظمة والضابطة لعلاقات الدول في العالم ؟
السودانيون لا يستحقون هذا الضيم والظلم والتمييز والتهميش العربي والاسلامي والانساني . ولا اطيب واشد نخوة من السوداني. ولربما ان اللوم بالاول والأخير ينصب على الدول العربية المشغولة بالحروب والصراعات والعبثية والعدمية، وما لا نهاية.