كثر الحديث عن الاصلاح في الآونة الأخيرة بسبب الوضع العربي المعقد بثوراته العشوائية البعيدة كل البعد عن مضمون الإصلاح العلمي الصحيح ، والذي يعتمد الحقيقة هدفا ومنهجا ومعيارا.. علما بان انبثاق هكذا ثورات خرجت تلبية لرغبة الشعوب العربية في الاصلاح ، وكانت بداية موفقة إلا انها سرعان ما حادت عن النهج المأمول والهدف المطلوب لأسباب كثيرة متداخلة تارة تندرج تحت مظلة المصالح الفئوية والآنية ، وتارة أخرى لتحقيق الأطماع الإستراتيجية الطويلة المدى و التي تتطلع إليها الجهات المستترة التي تقف وراء هذا الاقتتال الدائر.. محفّزة ادواتها من المقتتلين بكل خبث ودهاء ماكريْن ومن وراء ستار ، كي تتقاذف هذه الأدوات باسلحة الكراهية المعنوية والمادية.. حارقين انفسهم والأبرياء من ابناء جلدتهم..وقانا الله ووقاكم شرها وأذاها..
فالإصلاح لا يتأتى بين يوم وليلة ، عبر انفعال دائم وفورات دم متواصلة تغرق عالمنا العربي بالأحمر القاني ، والذي طالما تغنى به شعراء الشرق والغرب بسحره وعبقه وجماله وترابطه ودفء علاقاته وتكافله الاجتماعي !!
وللأسف.. فإن هذه الثورات انعشت مصاصي الدماء ، وعلى ما يبدو ان «دراكولا» ترك موطنه الأصلي في وسط أوروبا وجاء وفرّخ في بلادنا ، ولن ينفع معه كل محصول «الثوم» في عالمنا العربي للتخلص منه.. ولمن يتساءل عن سبب ورود ذكر الثوم هنا ، لأن هذا النبات كان يحجب ويحمي الإنسان ، حيث استعمله سكان اوروبا الوسطى – مسقط رأس دراكولا–لدفع شر دراكولا عنهم..
وخوفا من الغرق بالأساطير ونحن العرب لسنا بحاجة إلى المزيد منها إذ يكفينا شعوذة التنجيم والتبصير التي احتلت ساحات عقولنا حتى تم تجنيد فضائيات بأكملها لتفسير الأحلام ، وقراءة الطالع ، وفك الحجب ، والحوار مع الجن.... الخ من عناوين صارت بمثابة القاسم المشترك الأعظم لفكرنا وأسلوب حياتنا الغارق بغيبوية الأوهام.. والمصيبة ان هذه العقول الموهومة ركبت موجة الربيع العربي مؤجِجة نار الفرقة والاقتتال ، حيث بات سفك دماء الأبرياء في نظرها بمثابة مفاتيح الإصلاح المنشودة..
ترى هل الأوهام قادرة على صناعة الإصلاح !
كلا..فالاصلاح يرتكز على الحقيقة.. ويمتلك بصيرة قادرة على التمييز بين المعايير العلمية المنطقية المندرجة تحت مظلة « الاستشراف «.. وبين كل ما هو عكسها.. والاستشراف هو ما ينقصنا في عالمنا النامي العربي.. يعني استشراف المستقبل والتنبؤ به.. وله أصوله وأسسه المنطقية العلمية ، ثم يتبعها الخطط الإستراتيجية الملائمة.. وللأسف فإن التخطيط المستقبلي الذي تعتمده البلاد العربية هو تخطيط «الفزعات» المبنية على الأوهام خالطين دوما بين الحقيقة والخيال المريض !..
فالتنبؤ بالغيب وما يتبع من حلقات الوهم المفتقرة للعلم والمنطق هي فكرة جاهلية لا تقوم على أساس ديني وعلمي ، حيث جاء الإسلام ليحرر الناس من الأوهام والأباطيل في أي صورة كانت.. ومن أجل هذا شن الإسلام حملة واسعة على ما أشاعته الجاهلية من خرافات وأوهام مثل: السحر والكهانة والعرافة والتنجيم، وادعاء معرفة الغيب المستور من خلال الاتصال بالجن، أو الخط في الرمل، أو غير ذلك من اباطيل الجهل الشرقية والغربية على حد سواء..
صحيح أن الاستشراف هو نوع من التنبؤات التي تصدر عن مراكز دراسات متخصصة بالمستقبل معتمدة في عملها على منهجية علمية منطقية يعتمدها المتخصصون في دور دراسات المستقبل العالمية ، كأحد مناهج العمل الناجح والأداء الفعّال الناجم عن حب المعرفة ، دون خلطه بمحاولة استشراف علم الغيب..فهذا علمه عند الله وحده، إنما نحن معنيون ب « إدارة المستقبل « بالموقف الإيجابي الذي تتخذه الإدارة من قراءة احتمالات الربح والخسارة..
فعلم» المستقبليات « أو «الدراسات المستقبلية» و « إدارة المستقبل «..هو علم يختص بـ «المحتمَل» و»الممكِن» و»المفضَّل» من المستقبل، بجانب الأشياء ذات الاحتماليات القليلة لكن ذات التأثيرات الكبيرة التي يمكن أن تصاحب حدوثها.. حتى مع الأحداث المتوقعة ذات الاحتماليات العالية إلا إنه دائما ما تتواجد احتمالية ال «لا يقين» (Uncertainty) ، ولا يجب أن يستهان بها.. لذلك فإن المفتاح الأساسي لاستشراف المستقبل هو تحديد وتقليص عنصر ال «لا يقين» لأنه يمثل مخاطرة علمية..
وعلى ما يبدو ان امة العرب والمسلمين تزداد شغفا بزيادة عنصر ال « لايقين « في كل توليفاتها الحياتية والسلوكية والعملية مما انقلب علينا وبالا مرئيا !وها نحن نصرخ من اعماق قلوبنا وبملإ أفواهنا أنْ: كفانا أوهاما.. وفزعات.. وعشوائيات..
فكلها فرّخت المزيد من النكبات.. والنزوح.. واللجوء.. والخسائر.. !