على الرغم من فداحة الثمن الاقتصادي والاجتماعي الذي دفعناه نتيجة الحظر الشامل في بداية أزمة ظهور فيروس كورونا، فإن الواقع أثبت أننا أجّلنا المواجهة إلى الموجة الثانية، دون أن نحاول الاشتباك الإيجابي مع الوباء لبناء تجربة خاصة بنا تمكننا من مواجهة السيناريو الأسوأ، والذي لا يشكل فيه ارتفاع أعداد الإصابات المعضلة الحقيقية، بل ارتفاع أعداد الوفيات والحالات التي تحتاج إلى رعاية صحية مركّزة.
تجربة الحظر الشامل أفقدتنا القدرة على تحديد مناطق القوة والضعف، ويبدو أنها لم تستغل لبناء نموذج يحاكي أسوأ الاحتمالات، وآليات التعامل معها، ما يعزز نمو الروح السلبية لدى قطاع واسع من المجتمع، بسبب عدم وضوح الرؤية والشفافية في إعلان الاستراتيجيات التي سيتم اتباعها في حال الوصول إلى الأسوأ، لا قدر الله.
الحديث عن عدم فقدان الأمل بالسيطرة على الوباء يخالف توقعات العالم، إذ أن أغلب الدول الأوروبية أعلنت رسمياً بدء المرحلة الثانية من تفشي الفيروس، مع احتمال أن يكون شهر كانون الأول «قاتلاً»، خاصة بعد أن دق الاتحاد الأوروبي ناقوس الخطر، محذراً من أن الوباء الآن أسوأ مما كان عليه في فترة الذروة.
اليوم نحن أمام واقع جديد يرفض فيه العالم تماماً العودة إلى الحظر الشامل مهما كانت الظروف، لأن كلفة انتشار الفيروس أقل بكثير من كلفة إغلاق الاقتصاد الذي قد يؤدي إلى انهيار اقتصادات دول، مع ما قد يترتب على ذلك من تداعيات سياسية واجتماعية.
أي قطاع في الدولة يمكن أن نتحمل تكلفة انتشار المرض بين أفراده باستثناء المؤسسة العسكرية، لذلك فإن التفكير بهذا الخيار يجب أن يكون الأخير، فالمغامرة بوضع الجيش في خط الدفاع الأول مغامرة بالدولة وكيانها، لذلك على الحكومة وضع سيناريوهات بعيدة من إشراك العسكريين إلا في حالات الطوارئ القصوى.
التخطيط والاستعداد عنصران لازمان في مواجهة الأزمة، والتعويل على فرضية عدم الانتشار الحاد للفيروس وبقائه في حدود الأعراض الخفيفة فرضية جميعنا يتمنّى تحقّقها، ولكن هناك فرضية أسوأ تتعلق بأعداد الوفيات والحالات الحرجة، ولا بد أن نضعها في صدارة الأولويات، فإدارة الأزمات والطوارئ تبنى على أسوأ الاحتمالات لا أفضلها، هذا إلى جانب الشفافية والمصداقية من قبل الحكومة، بحيث يتم نشر استراتيجية الطوارئ التي سيتم استخدامها لتطمين المجتمع وإرسال رسائل إيجابية حول استعداد الدولة لما سيأتي.
صحيح أن الوعي المجتمعي هو العنصر الرئيسي في مواجهة المرض، عبر الالتزام بارتداء الأقنعة والتباعد الاجتماعي، إلا أن هذا لا يعني الاتكاء على ذلك ومواصلة متابعة انتشار الوباء فقط، بل ينبغي إجراء تقسيم جغرافي واضح لمحافظات المملكة وتجهيز مستشفيات ميدانية يمكن تفعيلها بشكل فوري في كل إقليم، إلى جانب توزيع الكوادر البشرية الصحية وأجهزة التنفس الاصطناعي بشكل يضمن قدرة كل منطقة على إدارة نفسها صحياً، إلى جانب توفير أماكن عزل وحجر يمكن استخدامها في حالات الطوارئ، دون الرجوع إلى مركز صنع القرار.
باختصار، إذا بقينا هكذا إلى وقت دخول فصل الشتاء فقد نواجه ما لا تحمد عقباه، وعندها ينطبق علينا المثل القائل: «العليق عند الغارة ما ينفـع».