ليس غريباً البتّة، أن تقرر دولة الاحتلال سحب تصاريح الحركة للفنان الفلسطيني محمد عسّاف، سفير النوايا الحسنة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين، بل لقد كان غريباً على دولة عنصرية أن تمنح عسّاف تصاريح حركة، ولكنها لم تصمد طويلاً، لكي تعود إلى طبيعتها العنصرية وحربها على الثقافة والمثقفين. نحمد الله أن إسرائيل لم تقم باغتياله كما فعلت من قبل بحق العديد من المثقفين الفلسطينيين.
تاريخ الاغتيالات الإسرائيلية طافحة بالجرائم حين بدأها بتفجير سيارة الكاتب والمناضل الكبير غسان كنفاني وأتبعها بمحاولة اغتيال بسام أبو شريف رئيس تحرير مجلة الهدف، إلى اغتيال الشاعر الفلسطيني كمال ناصر، فهاني جوهرية والكاتب حنا مقبل، والقائمة تطول.
تدرك إسرائيل أن جبهة الثقافة هي الحصن الأقوى والأهم في الصراع بين الحق والباطل، بين القاتل والضحية.
وبالمناسبة فإن إسرائيل تمنع عشرات الفنانين والكتّاب والمثقفين والأكاديميين من التواصل بين غزة والضفة والقدس، وتمنع عشرات الفرق الفنية، أيضاً، من التنقل ولا يختلف الحال بالنسبة للمسرحيين.
لم تكن إسرائيل سعيدة بعودة الشاعر الفلسطيني العالمي المرحوم محمود درويش، واستقراره في رام الله، ولكنها لم تسمح له بالعودة إلى قريته الأصلية البروة في أراضي 1948.
لقد كان ذلك، في ذروة حيوية اتفاق أوسلو، لأن مكانة ومقام درويش ما كان سيشفع له، حتى لو اعترضت كل الدنيا على قرار إسرائيلي بمنعه من العودة إلى مرمى حجر عن قريته وأهله.
مرة أخرى لا يمكن للاحتلال أن يخالف طبيعته، وفق المثل الشائع الذي يقول إن الطبع غلب التطبُّع، وذلك أمر سيكتشفه عمّا قريب المطبّعون من العرب الذين يعتقدون أن الذئب لن يكون مفترساً إن لبس ثوب الأرنب. بالتزامن مع قرار منع عسّاف من الحركة يرفض الاحتلال منح تأشيرات دخول لموظفي المفوضية السامية لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة.
قصة الحرب بين إسرائيل والمفوضية الأممية لحقوق الإنسان والمجلس العالمي لحقوق الإنسان قصة طويلة، وهي حرب لا تتوقف، لأن هذه المؤسسات لا تستطيع إغماض العيون عن الجرائم التي ترتكبها إسرائيل كل الوقت للإنسان الفلسطيني، وتنتهك القوانين الدولية والإنسانية.
معلوم للجميع أن إسرائيل ترفض السماح لأي لجنة تحقيق دولية من دخولها، وإجراء التحقيقات بشأن انتهاكات وجرائم حرب، لا تتوقف إسرائيل عن ارتكابها.
إن العالم يعرف ما الذي تقوم به الولايات المتحدة، بحق قضاة «الجنائية الدولية»، ليس لأن المحكمة ستنظر في شبهة جرائم حرب ارتكبتها القوات الأميركية في أفغانستان وإنما في الأساس دفاعاً عن إسرائيل، ولمنع المحكمة من مواصلة تحقيقاتها بشأن جرائم حرب إسرائيلية متكررة ضد مدنيين فلسطينيين.
عودة إلى الفنان محمد عسّاف، فقد اتهمه آفي ديختر بالتحريض ضد إسرائيل، وقال إن إسرائيل ستعمل مع الإمارات لمنع أنشطته الفنية فيها. يمكن لإسرائيل أن تفعل ما تشاء انسجاماً مع طبيعتها الإجرامية، العنصرية، ولكن محظور على العرب كل العرب أن يتساهلوا إزاء الحرب الإسرائيلية على الثقافة وعلى الرواية التاريخية للصراع.
إن حصل ذلك ـ لا سمح الله ـ فإن الأمر يتجاوز كل الحدود، ويخرج عن حدود الحديث عن سلام لا علاقة له بالسلام، إلى الاستسلام، والاندلاق، وتسليم كل الأصول. الشاشات العربية، وخصوصاً (MBC) تضجّ بالبرامج الفنية لاكتشاف وتشجيع المواهب، وهي تلعب دوراً مهماً ومطلوباً رغم أنها تحاكي برامج مماثلة أميركية وغربية، ولذلك فإن عليها واجب الدفاع عن هؤلاء وتشجيعهم، ورعايتهم. خمسة برامج فنية ترفيهية هي الأهمّ، من أحلى صوت للشباب والأطفال والآن لكبار السنّ، إلى برامج «المواهب العربية» و»ستار أكاديمي» و»اكس فاكتور»، إلى «محبوب العرب»، الأكاديمية التي تخرّج منها عسّاف بامتياز ليتابع مسيرة الفنانين المصريين والسوريين واللبنانيين والعرب الذين رفضوا أو قاوموا التطبيع.
معروفة قصة التحاق محمد عسّاف ببرنامج «محبوب العرب»، في ظل الحصار على قطاع غزة، ومحدودية الامكانيات المادية، لكن التحاقه بالبرنامج كان مؤشراً على طبيعة الفلسطيني الذي لا يعرف المستحيل.
يفتخر الشعب الفلسطيني بفنّانيه الذين وصلوا إلى منصّة «محبوب العرب» وغيرها من البرامج، وبعضهم أصبح له هوية ومكانة وسط الفنانين العرب، غير أن الأمر مختلف بالنسبة لعسّاف، ابن العائلة المتواضعة التي تسكن في حي شعبي بخان يونس، ولم ينجح بالفوز في مسابقات فنية فلسطينية، ربما كان ذلك بسبب نقص الخبرة، أو ضعف مستوى التحدّي، والدوافع. حين صعد عسّاف إلى منصّة التجربة، ومنذ يومه الأول لقي اهتماماً ومناصرةً وتشجيعاً من الشعب الفلسطيني، الذي تابع باهتمام خاص كل حلقات البرنامج حتى آخرها. رغم الألم يؤكد الشعب الفلسطيني أنه شعب يستحقّ الحياة، وأنه أصيل يضجّ بالحيوية والقدرة على الإبداع، وأنه شعب لا يهمل الفنّ كوسيلة للتعبير عن تراثه وتاريخه وحاضره، لكي يثبت للعالم أجمع أنه شعب أصيل متجذّر، في أرضه، وأنه يستحقّ مكانة مرموقة بين شعوب الأرض.
عشرات الفنّانين إن لم يكن أكثر تخرّجوا من هذه البرامج وغيرها، واقتحموا ميدان الفنّ، لكن عسّاف كان الصوت الذي يكاد لا يظهر كل خمسين سنة كما قالت عنه الفنّانة شيرين.
عسّاف ليس صوتاً متميزاً ومظهراً جميلاً فقط، إنه صاحب «الكوفيّة» وصاحب «يا طير يا طاير»، وعديد الأغاني، الملتزمة التي كانت تصدح في أعراس غزة والضفة والقدس وكل أرض فلسطين التاريخية.
كان من الطبيعي أن يكون رد عسّاف، منسجماً بوطنيته وهويته والتزامه الدفاع عن قضايا شعبه، ليقدم نموذجاً للمهرولين والمطبّعين والمنتظرين دورهم في طابور التطبيع الثقافي وغير الثقافي.
ربما كان علينا أن نطلب من عسّاف أن يتجاوز قيود عقده مع المؤسسة التي تبنّته، لكي يعود لنوع الفنّ والأغاني، التي نشأ عليها. ستتعب إسرائيل إن هي واصلت ملاحقة الفنانين والمثقفين الفلسطينيين، ويا ليتها تعرف أن الشعب الفلسطيني لديه عشرات من مستوى عسّاف، والكثير من المبدعين الذين لا يجدون الفرصة لتفجير طاقاتهم واقتحام البُعدين العربي والدولي.