ملفات كثيرة معقدة تنتظر الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن، منها داخلية وأخرى خارجية.
أبرزها على الصعيد الداخلي: موضوع جائحة كوفيد-19 (كورونا)، وموضوع إعادة اللحمة إلى النسيج المجتمعي الأمريكي بعد الاستقطاب السياسي الحاد، وتنامي النزعات الشعبوية العنصرية والقومية، وموضوع انتشار السلاح، والصعوبات المعيشية لقطاعات واسعة من الأمريكيين.
أما على الصعيد الخارجي: فهناك جملة قضايا تستوجب مقاربة مختلفة لتلك التي اعتمدها الرئيس ترامب، هذا مع أهمية الإقرار بصعوبة القطع نهائياً مع المتغيرات التي حصلت خلال فترة حكم إدارته. ومن أهم هذه القضايا العلاقة على الصين؛ ومستقبل العلاقة مع أوروبا؛ وتفعيل الدور الأمريكي في المنظمات والمعاهدات والاتفاقيات الدولية، مثل منظمة الصحة العالمية، ومنظمة اليونسكو، ووكالة الأونروا، واتفاقية باريس المناخية؛ وتحديد العلاقة مع الروس، والأوضاع في جنوب شرق آسيا، وفي شبه الجزيرة الهندية، وأمريكا الجنوبية.
أما في منطقة الشرق الأوسط، فهناك قضايا كبرى تنتظر الرئيس الأمريكي المقبل، في مقدمتها قضية النزاع العربي الإسرائيلي في بعده الفلسطيني؛ وفي ظل اتفاقيات ابراهيم التطبيعية التي أعلنت بين إسرائيل وعدد من الدول العربية. هذا إلى جانب موضوع الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل من جانب ترامب، والاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان السوري المحتل. ويُشار في هذا السياق أيضاً إلى حرب اليمن، وآخر تطورات الأزمة الليبية، والأوضاع في مصر وتونس والجزائر ولبنان.
ولكن ما يهمنا بصورة أساسية هو الجرح السوري المفتوح الذي سيكمل قريباً عامه العاشر من دون أن تلوح في الأفق ملامح حل مقبول، حل واقعي ينهي مأساة أكثر من عشرة ملايين سوري بين نازح في الداخل الوطني، ومهجر لاجئ في الجوار الإقليمي؛ ويمنح السوريين الذين يعيشون في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام الأمل بأن جملة المشكلات الكبيرة التي يعانون منها، خاصة المعيشية منها، ستجد طريقها نحو الحلحلة.
من الصعب التكهن منذ الآن بتحولات نوعية في السياسة الأمريكية على صعيد التعامل مع الملف السوري. لأن الأوضاع الراهنة التي تعيشها سوريا من جهة توزعها بين مناطق نفوذ إقليمية ودولية، وسيطرة الجيوش الأجنبية على أرضها وسمائها، تعد حصيلة تلك المقدمات التي تراكمت في عهد أوباما الذي لم يكن متحمساً منذ البداية، لأسباب عديدة، للانخراط في الشأن السوري، بل فضّل التوافق مع الروس ليتدخلوا منعاً لسقوط النظام، وكان ذلك بالتفاهم مع الجانب الإسرائيلي، والإيراني إلى حد ما؛ وعلى الأكثر لم تكن أطراف عربية مؤثرة بعيدة عن الموضوع.
وجاء هذا التوافق بعد صفقة الكيميائي 2013 التي كانت مقابل تخلي أوباما عن خطه الأحمر الشهير. وقد تجسد التوافق المعني في القرار الأممي 2254 عام 2015 الذي اعتبر تراجعاً عن بيان جنيف 1 الذي كان يتمحور بصور أساسية حول تشكيل هيئة الحكم الانتقالي؛ هذا في حين أن القرار المذكور شتت التركيز باتجاهات مختلفة، حتى تمكن ديمستورا بالتفاهم مع الروس والأمريكان بطبيعة الحال، من الدفع بموضوع اللجنة الدستورية التي اعتمدت لتختزل كل الموضوع السوري. على أن تكون الخطوة اللاحقة هي الانتخابات. أما موضوع تشكيل الهيئة الانتقالية، ومحاسبة المسؤولين الذين أوصلوا الأوضاع في سوريا إلى ما هي عليه، فقد باتا في حكم المنسوخ.
وكان من النتائج الأولية للتدخل الروسي في سوريا إلى جانب النظام عام 2015 عملية إسقاط حلب عام 2016 التي كانت، على الأغلب، نتيجة صفقة تمت بين روسيا وتركيا، وذلك بعد عودة المياه إلى مجاريها بينهما. وفي سياق التوافق الأمريكي الروسي المشار إليه، تم الاتفاق على توزيع ميادين العمليات بين الروس والأمريكان؛ مع إعطاء دور لتركيا في عمليات “درع الفرات” عام 2016.
وقد ركز الأمريكان على موضوع شرقي الفرات، ووجدوا في القوة العسكرية لحزب العمال الكردستاني تحت مسمى قوات “حماية الشعب”، ومن ثم “قسد” ضالتهم لتنفيذ مهمة محاربة “داعش” واستئصال إدارته في عاصمته التي كان قد أعلنها في الرقة. أما لماذا أخذ الأمريكان على عاتقهم موضوع شرقي الفرات، وأطلقوا يد الروس في بقية المناطق السوري، فهذا أمر له علاقة مباشرة بدورهم في العراق، وذلك نظراً لأهمية هذا الأخير بالنسبة إلى سياساتهم الآنية والمستقبلية في منطقة الخليج، وفي سياق عمليات التوازن التي يحرصون عليها بين القوى الإقليمية الأساسية (إيران، تركيا، السعودية، مصر، إسرائيل).
ومع مجيء ترامب، تغيرت الأمور من جهة التشدد مع النظام، والمطالبة بخروج الإيرانيين من سوريا، وإفهام بعض الدولة المؤثرة في الجامعة العربية بأن خطوة إعادة نظام بشار إلى عضوية الجامعة سابقة لأوانها، هذا بالإضافة إلى عرقلة توجهات بعض الدول في الانفتاح على النظام عبر بوابة مشاريع إعادة الإعمار والاستثمارات الاقتصادية.
وما يسجل لترامب في هذا السياق، هو تنفيذ ضربة الشعيرات 2017 رغم رمزيتها وعدم فاعليتها؛ وإقرار قانون القيصر 2019 الذي من شأنه أن يكون ورقة ضغط من بين الأوراق التي قد تستخدمها الإدارة القادمة من أجل دفع النظام نحو القبول بحل سياسي ملموس.
ولكن الذي يسجل على إدارة ترامب يتمثل في السلبية الأمريكية الواضحة في مواجهة مساعي الروس التي كانت لإطلاق مسار أستانا (كانون الثاني/ يناير2017). وهو الأمر الذي كان يشير من دون أي شك إلى رغبة روسية في تهميش مسار جنيف، أو فرض أجندتهم على جدول أعماله. وقد تمكنوا بالفعل من ذلك، كما تمكنوا من استمالة تركيا التي باتت مع الوقت قريبة من المحور الروسي – الإيراني.
وبالتزامن مع جولات أستانا، كان القصف الروسي الجوي والإيراني البري يشتدان على مناطق الفصائل المعارضة؛ مع تحاشي ضرب مواقع جبهة النصرة أو “داعش”. هذا مع أن الروس كان قد دخلوا الحرب إلى جانب النظام في سوريا تحت ذريعة محاربة الإرهاب، وهي الفزّاعة التي سوّقها بوتين.
وهكذا تم القضم التدريجي لمناطق واسعة كانت خارجة عن سيطرة النظام سواء في الغوطة وحمص وحوران ومنطقة ادلب، أم في ريفي حلب وحماة. كما غض ترامب النظر، بالتفاهم مع الروس، عن الدخول التركي إلى مناطق عفرين عام 2018، ورأس العين وتل أبيض عام 2019.
هل سيبني بايدن على المقدمات التي وضعها أوباما للاستراتيجية الأمريكية في التعامل مع الملف السوري؟ وهي المقدمات التي أدت إلى نتائج ملموسة على الأرض لم يحاول ترامب التغيير فيها كثيراً؛ بل تراجع عنها سياسياً في واقع الحال.
كيف سيتعامل بايدن مع تركة ترامب في سوريا بسلبياتها وايجابياتها؟ ويُشار هنا إلى الموقف من التواجد الإيراني؛ والرغبة في بلورة تفاهمات في منطقة شرقي الفرات بين مختلف المكونات المجتمعية، خاصة بعد فشل مشروع المفاوضات بين حزب الاتحاد الديمقراطي (الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني) والمجلس الوطني الكردي، وتشكل جبهة السلام والحرية التي تضم قوى كردية وعربية وسريانية آشورية، وتواصلها مع العديد من الجهات الدولية والإقليمية الفاعلة.
هل سيستمر بايدن في سياسة غض النظر تجاه الروس، وحرصهم المتواصل على استباق الأمور من أجل هندسة حل ينسجم معهم، ويتوافق مع مصالحهم التي تتمثل في الحفاظ على الهيكلية الأمنية-العسكرية الموالية لهم داخل النظام؛ والاستثمار في مشاريع إعادة الإعمار، ووضع اليد على ثروات البلد وموارده الحيوية؟ وذلك مقابل التفرغ لموضوع العراق، والعمل على بلورة معالم آلية جديدة للتعامل مع كل من تركيا وإيران ضمن إطار استراتيجيته العامة للتعامل مع قضايا المنطقة. وما يستشف في هذا المجال هو أن موضوع العودة إلى الاتفاقية النووية بشروط معدلة سيكون من بين الأولويات، ومن نقاط التقاطع مع الأوروبيين.
لقد أثبتت تجربة عشر سنوات وأكثر من الشد والجذب بين الأمريكان من جهة، والإيرانيين من جهة أخرى، أن أسلوب إدارة الأزمات من دون حلها، لم يكن أبداً في صالح شعوب منطقتنا، ولا في صالح المجتمع الدولي، خاصة في أوروبا حيث وصلت أفواج اللاجئين الكبيرة؛ وتنامت مشكلة الإرهاب والتوتر الحاصل نتيجة التصادم بين مقتضيات المصالح الوطنية وجهود الجماعات الإسلاموية، وتصاعد أصوات مسؤولين على أعلى المستويات، ترى أن المشكلة تكمن في الإسلام كدين. وهذا مؤداه مواجهة أوروبية-إسلامية لن تكون في صالح الطرفين، بل تكون في خدمة جماعات التطرف.
من الصعب التكهن منذ الآن بما سيقدم عليه بايدن، أو ما ستعتمده إدارته من استراتيجيات، ولكن من المتوقع أنه ستكون هناك متغيرات ايجابية في الميدان الدولي، وفي سياق التعامل مع المنظمات الأممية.
كما أنه سيأخذ بعين الاعتبار تبعات احتمالات تحوّل حلف المصالح القائم حالياً بين روسيا وتركيا وإيران إلى محور مستقر في المنطقة؛ الأمر الذي سيضع الكثير من العراقيل أمام السياسات والمصالح الأمريكية في المنطقة، وسينعكس سلباً على المطالبات الخاصة بالديمقراطية في المنطقة.
ولكن، وفي جميع الأحوال، تبقى الولايات المتحدة الأمريكية قوى عظمى لها مصالحها الاستراتيجية في مختلف أنحاء العالم، كما أنها تمتلك من الأوراق ما يمكّنها من استخدامها مع جميع الأطراف وقت اللزوم.
أما سورياً، فإن البازارات الإقليمية والدولية ستستمر؛ وفي هذا السياق، نرى أنه ليس من المنطقي والواقعي أن ننتظر من الآخرين أن ينجزوا المهمة عوضاً عن السوريين. وهذا فحواه ضرورة وجود بديل سوري وطني مقنع، يلتزم مصالح السوريين؛ ويأخذ بعين الاعتبار واقع ضرورة تفهم الحسابات والمصالح الإقليمية والدولية، ولكن على أساس مساعدة السوريين لاستعادة بلدهم، وبناء نظامهم الوطني الديمقراطي الذي لا بد أن يطمئن جميع السوريين من دون أي استثناء؛ وعلى قاعدة احترام الخصوصيات والحقوق؛ والتشارك الفعلي في الإدارة والموارد ضمن إطار وحدة الوطن والشعب.