مَرَّ رجلٌ على صبيةٍ ثلاثة لاهـين منشغلين ، لا تَسمعُ غيرَ طَرقَ جِدالهم وضحكاتهم ، وأصابعهم التي تُلاعبُ جهازاً صغيراً بحجم الكف ، فسألهم: مَنْ تكونون أيُّها الصبية؟! ومَنْ أي الدِّيارِ والمِللِ أنتم؟ فردَّ أوسَطُهم قائلاً : نحنُ البَبجيون يا أخا العَرب ؛ فمَنْ تكون أنت أيُّها الرجل؟
فيجيبهم الرَّجل باندهاش : البَبجيون! ما سَمعتُ يوماً عن قبيلةٍ من قبائلِ الأرض بهذا الاسم ، وما قرأتُ في أشعارِ العَربِ عنها ؛ وما أنْ التقطَ أنفاسَهُ التي تزفُرُ كالنَّارِ واستراح ، حتَّى سألهم : أأجِـدُ عندكم قَطرةَ ماءٍ أسُدُّ بها ظمأي؟ فقد أنهكَني المسيرُ واختلفَ عليَّ الوقت والمَسرى.
شربَ الماء ، والصبية لا يزالُون في عالمهم الافتراضي البعيد ، تتعالى ضحكاتهم تارةً ويُساورهم الهدوء تارةً أخرى ، ثم ما تلبث صراخاتهم تشقُّ أجواءَ سكينتهم ؛ يرقُدون على مفارشهم لكنَّهم ليسوا نيام ، وينادون الجُنودَ المُقاتلين "اضرُب .. اضرُب" لكنَّهم ليسوا في يقظة ؛ وحينَ يتألقُ أحدهم صارخاً "لقد قتلتهم جميعاً" ، ينتابُ الرَّجلُ شعوراً أنَّه أخطأ المُقام ، وأنَّ هؤلاء الصبية في معركةٍ داميةٍ ، وحامية الوطيس ، وأنَّهُ جاءَ إلى الموتِ بقدميه ، ممّا دعاه للتفكيرِ بالهُروب خشيةً على روحه.
ما يدورُ في خَلَدِ الرَّجل ، أنَّ هؤلاء إمّا مناضلونَ على جبهات القتال ، يحشدون قُواهم وجنودهم وأسلحتهم ، ويستميتون للدِّفاع عن مستقبلهم وأحلامهم ، وإمَّا أنَّهم فتيـةٌ آمنوا بدَحرِ ما عَلِقَ في أدمغتهم وعقولهم من بقايا تراثٍ وعاداتٍ وقيمٍ ، اعتقدوا أنَّها مِن مخلَّفاتِ الماضي العقيمة ، تمنعهم من التَّلذّذِ والمتعة التي حُرِمَ منها آباؤهم وأجدادهم ؛ فراحوا يهربون من هذا الواقع المرير ، وينتفضون على الاحتلالِ الفكري القيمي الذي يُطاردهم أنّا توجَّهوا.
التفت أحدُ الصبية – على عجلٍ – فلمَحَ الرَّجلَ يطغى على وجهه الحُزن ، ويغشى هامته العريضة البؤسُ واليأس ، فبادرهُ بابتسامةٍ بريئةٍ قائلاً : لَمْ تُخبرنا بعدُ يا عَم ، مَن أنت؟
الرَّجلُ : لا بأس ، ولكن عليكم أنْ تعلموا جيداً ، أنَّني جئتُ لأمرٍ مَهول ، ولمْ أكن عابراً بكم مًصادفةً ، فقد بلَغَني أنَّ جيشاً من المراهقين في هذا الزَّمان ، قد خرجوا عن جلدَتهم وفطرتهم وثقافتهم ومبادئ دينهم ، وانصرفوا لاهثين وراء السَّراب المظلِّل.
الصبي: ما بهم يا عمْ؟ إنْ كانوا آذوكَ ، فلسَوفَ نقفنَّ لهم كُلَّ طريق ، ونحطِّمهم تحطيماً ، ونقتلعَهم من جذورهم ؛ فلا عليك فإنَّ أعواننا كُثرٌ جداً ، يبتلعون ... وو
الرَّجلُ : (يُقاطعه باستهجانٍ وحُرقة) مهلاً مهلاً ، على رِسلِكَ يا بُني ، دعني أكمل حديثي ؛ (ويواصلُ الرَّجلُ) هؤلاء لَنْ يَطالوني بسوء أبداً ، فأنا موجود بهم وبدونهم ، لكنَّهم يؤذون أنفسهم من حيثِ لا يعلمون ، ويُوغلون في شرخِ إنسانيتهم وتشريحها ، وهم ينسفون أوقاتهم وجهدهم وتفكيرهم في غيرِ ما سُخِّر له ، ليأتوني يوماً كالصحراء الجرداء ، مغتسلين من كُلِّ شيء.
في هذه الأثناء والصَّبي يستغرقُ بالاستماع إلى هذا الرجل ؛ يدعو أصحابه : تعالوا هنا تعالوا ، إنَّه يقولُ كلاماً لم أسمعه قط ، (فيأتي الصبية ليجلسوا بقُرب الرجل).
الرَّجلُ : لا تستغربوا ، فإنَّ الحياةَ لوحةٌ مزركشةٌ ، فإمَّا أن تكونون أنتم ربيعها ، وموسمُ خيرها المُنتَظر ، وإمَّا أنْ تكونوا فصلاً تتساقطُ فيه آخرُ أوراق التُّوت ؛ أولئكَ الشُّبان والشَّابات أدمنوا اللهو واللعب ، فتَفتَّحت لهم أزهاره ، ونضجت في بيوتِ أهلهم غرائزه ؛ حتى كاد أحدهم يُخاصم والديه ، ويستقوي عليهما ببراءةٍ ودهاء ، لا تختلفُ كثيراً عن طبائع النصَّابين والماكرين ، وربما يُمارس الضَّغط عليهم بالانقطاع عن الطعام والكلام ، في سبيل ممارسة هذه الألعاب ، التي أدمنوها في الصباح والمساء ؛ ولكم أن تتخيَّلوا هؤلاء عندما يصلُ بهم المَطافُ إلى استنساخ كُلِّ مظاهر العنف والقتلِ والتدمير وسفك الدِّماء ، كيف سيكونُ سُلوكهم في المجتمع بعد حين ؛ أليسوا هُمُ معاول الهدم والتخريب والانحراف والإرهاب القادم؟ الذي يُطبَخُ على نارٍ هادئة قوامها الظاهرُ اللعبُ ، وباطنها الخُبث ، ليكوِّنَ مع الأيام جيلاً مُتطَرِّفاً في حياةٍ أخرى ، لا تحكمه مُثُلٌ غير التَّمرد على الأخلاق والقيم ، ولا يعرفُ سوى لغة الدَّم ، وتنمية الجانب الشِّرير لديه.
أكبَرُ الصبية : ولكنَّ هؤلاء الذين تتكلم عنهم يلعبُون ويتمتعون دون مساسٍ بأحد ، فلا يخرجون للشَّوارع ليعرضوا حياتهم للخطرِ ، ولا يُرافقون أصحاباً من ذوي الخُلُقِ السيء ، ولا يسرقون ولا ينهبون مالَ الغير ؛ وأهلهم بالتأكيد يريدون لهم هذا السلوك الخيِّر.
الرَّجلُ : أحسنت يا بُني ، هنا تكمُن خطورة هذه اللعبة (بَبجي) وغيرها ، فهُم كما قُلت معزولون عن العالم الواقعي ، ويعيشون في عالمٍ آخر كوَّنته لهم هذه الألعاب ، لا للتسلية فحسب ، بل لبناء ثقافة جديدة تقوم على الانطواء ، والجلوس أمام شاشات الكمبيوتر والهاتف ، والانطواء والانعزال خطيران جداً يا أبنائي ، فهما تهيئةٌ للفرد للعيش في عالمه الخاص ، حتى إذا ما طلع على المجتمع ، طبَّقَ ما كان في عُزلته ليثبت ثقته بنفسه ؛ فأنتم مثلاً تهدرون مساحةً شاسعةً من وقتكم على الألعاب المؤذية ، التي تسري فيكم كالسُّم ، وإن بدَت لكم نوعاً من الترفيه ، ولا تؤذون أحد لكنَّكم تؤذون أنفسكم ، وتحملونها على السلوك العدواني العنيف ، ولا تسرقون أحداً لكنَّكم تسرقون طاقاتكم وقدراتكم ، لتستغلونها في المساهمة في التَّرويج لهذه الألعاب ؛ أليسَ قتلُ النَّفس ، وهدرُ الوقت حرام؟!!
وبينما الصبية يُطالعون وجوه بعضهم بقلق ، وقد ساد الوجوم على المكان ، وهم يُتمتمون بينهم ، فيقول أحدهم : لماذا إذاً تُعطيني أمي هاتفها طيلة الوقت ، ولا تمنعُه عني؟! ويقولُ آخر ساخراً : نقتلُ أنفسنا! يبدو أنَّ الرَّجلَ ذو عقلٍ مُتحجر ، ويقولُ ثالثهم (وقد راح في موجةٍ من البكاء الشَّديد) : الآن أدركت سببَ طلاق والديَّ ، لأنَّ أبي كان شديد التَّعلُّق بهذه اللعبة ، وكانا هو وأمي في خِصامٍ دائم.
الرَّجلُ : (يملأه الحزن والتحسَّر ممّا سمع من هؤلاء الصبية) : هُنا موضعُ الخلل رعاكم الله ، المجتمعُ الصَّغيرُ المحيط بكم كالأسرة مثلاً ، التي هي اللبنةُ الأولى للتربية ، والواجبُ عليها كبيرٌ جداً في التماشي مع مُستجدات العصر ، لكن بما لا يُوقعُ الضَّرر عليكم ، ولا على أي فردٍ فيها ؛ فهل يدركُ الآباءُ والأمهات ما ترمي إليه هذه اللعبة؟! وهل هُم جادّون في مُراقبة ومتابعة أبنائهم؟! أم ينتظرون حتى يقع الخلل ويستعصي علاجه؟! لا ، وتزدادُ المصيبة عندما تجد بعض الكبار مُدمنون على ممارسة هذه اللعبة ، إذاً فكيف يكون حال الصِّغار؟! فالخللُ ليس في التكنولوجيا كما يقولُ البعض ، فأنا مثلاً لا أرى في التكنولوجيا ما يُخيفُ سوى طريقة التعاطي معها ..
الصبية الثلاثة معاً : ومَن أنت؟! بربِّكَ أخبرنا ، فقد بصَّرتنا على طريقنا هذا ، الذي لا يسلكهُ إلا هالك.
الرَّجلُ : أنا الزَّمــنُ القادمُ يا أبنائي ، جئتُ إليكم برسالتي هذه ، فإنْ أردتم - أنتم ومَن هُم في هذا الشَرك المتشابك – فخذوها ، وإنْ عزمتم على المضي في طريقكم هذا ، فاعلموا أنكم ستأتون إليَّ ممتلئين بالكثير وينقصكم الكثير الكثير ؛ واعلموا أنّي لن أخسرَ شيئاً حينها أغلى من فلذات أكبادِ زمنكم هذا ، وتلك خسارةٌ عظمى.