سمّاها البعض «عشر سنوات عجاف»، وأطلق عليها البعض الآخر «سنوات القحط العشر»، ونرى أنّها تجسّد مرحلة «الطّيش السياسي».
وإنّ الرّأي السائد بخصوص حراك ما يُسمّى بـ«الربيع العربي» هو أنّه أتى على الأخضر قبل اليابس، فمنذ شهر يناير 2011 شهدت الدول التي شملتها موجة «الربيع العربي» عملية تدمير ممنهج طالت أركان ومؤسّسات الدولة، وعصفت بما يمثّل خصوصيات الأوطان التي تشكّل أساسات الدولة الوطنية، وعمدت إلى طمس معالم الحداثة والتقدّم والانفتاح على الآخر، وأكملت تقويض ما تبقّى من منظومة تعليمية قادرة على ضمان ديمومة المعرفة، وزادت في نسب تفقير الشعوب، ومكّنت الفساد والإفساد من أجنحة، فاستشرى في الدولة والمجتمع بشكل كاد معه أن يُصبح من الفضائل، وكبُرت المهانة والاستهانة بالمواطن العربي، وعمّ اليأس بين الناس، وطغت على المجتمعات حالة من الإحباط القاتل، واستحالت الثّقة بين الحاكم والمحكوم.
ولا نكاد نعرف مثيلاً في تاريخ حضارتنا لهذه السنوات العشر، التي انطلقت بحلم الحرّية والكرامة، وانتهت إلى كابوس الجهل والفقر. وأحسب أنّ دولَ هذا «الخراب العربي» وصل بعضها إلى حالة الموت السريري، وبعضها الآخر يعاني من سكرات الموت، ومَنْ مِنْ هذه الدول التي تفادت الاندثار الكلّي أصيبت بعاهات مستديمة.
وفِي أحسن الحالات يُمكن ذكر مصر، التي أمِنَتْ نسبياً من جوع وخوف، وبدأت تشهد طفرة اقتصادية تستهدف تحقيق الكرامة للمصريين، وتحمي المجتمع والدولة، لحين اكتمال ضمانات الاستقرار الأخرى التي لا مناص منها، وهي متعلّقة بتركيز أسس الديمقراطية.
كما يُمكن التعرّض للحالة التونسية التي يسود الاعتقاد خَطَأً أنّها المثال والنموذج الأقلّ سوءاً، ولكنّ المتمعّن في تطوّرات ومآلات الأمور فيها، يتأكّد من أنّ السّوس تمكّن منها ومن نموذجها الحضاري، الذي كان دوماً الوجهة المحبّذة لعمليات القصف «الإخواني» من داخل تونس ومن خارجها بالخصوص، وقد بدأت الآن أعراض ذلك تظهر وبشكل ملموس.
ففي تونس، كما في غيرها من دول «الربيع العربي»، لم يكن الحراك المكثّف في شهر يناير 2011 نتاج تراكمات داخلية صرفة، خصوصاً في مسألة الحرّيات السياسية، التي اقتصرت المطالبة بها على نخبة تضيق وتتّسع بحسب الارتباطات الانتهازية لهذه النّخبة مع السّلطة، بل هو تحوّل الضرورة الذي اقتضته أجندات بعض القوى الإقليمية والدولية، والتي وجدت في حالة البؤس والفقر المجتمعي منطلقاً ومتّكأ لها، فغذّت عن طريق بعض النّخب موجة الاحتجاجات، واستغلّت هوان الدولة وضعفها، وانصراف القائمين عليها إلى تأمين مصالحهم الشّخصية على حساب مطامح الشّعب، الذي كبُرت معاناته واشتدّت نقمته وسخطه على الحاكم.
وقد بدأت ملامح هذا السيناريو المتشبّه بالثورة تتّضح الآن، وانكشفت أمام المجتمع أطياف الانتهازيين والمرتزقة والمعادين للأوطان، والذين وضعوا أنفسهم على ذمّة حركات «الإسلام السياسي»، بَدْءاً بالأصول «الإخوانية»، وصولاً إلى الفروع التي تستكين كلّها تحت خيمة حركة «النهضة».
وإنّ هذا الوضع أفقد السلطة في تونس رصيدها ومخزونها الشّعبي، نتيجة تنامي الفقر والتهميش، وإصرار الحاكم على سلك طريق الفساد، سلطةٌ كانت أصلاً فاقدة حزامها النخبوي نتيجة عدم الوعي بدور النّخب في عملية إعادة إنتاج هذه السلطة، فوجدت نفسها في أوّل امتحان جدّي تتداعى وتنهار، ولَم تجد سنداً عند انطلاق الاحتجاجات.
وجاء الحراك، وكان المأمول منه بعضاً ممّا يحقّق الكرامة للمواطن، ويضمن شيئاً من الحريّة يُنعش نخبة أضناها الرّأي الواحد، ولكنّ هذا الحراك تحوّلت وجهته إلى تحقيق بعض المطالب الحقوقية والسياسية لفئات مجتمعية ضيّقة، وبقي المواطن رهين الجوع والفاقة، فتمرّد على الدولة والنظام الحاكم، وواجه جحود النّخبة التي رفعها إلى الحُكْمِ بحالة عصيان على مؤسّسات الدولة، وبالرفع من سقف طلباته بشكل يفوق كلّ الإمكانيات، وهو ما أدّى ويؤدّي إلى مزيد من تدمير مقوّمات الدولة الوطنية، وضرب الاستقرار المجتمعي.
وقد زاد في حدّة الأزمة تنامي ظاهرة الشعبوية التي تتغذّى من حالة الجهل المعرفي، ومن تدنّي مكانة التعليم في المجتمع.
المواطن التونسي تفطّن إلى أنّ النّخبة السياسية سلكت طريق الانحراف، وجاز القول بأنّها نُخَبٌ طائشة جاءت بها الصّدفة، وتركّزت بفعل الانتهازية وطغيان الجهل، أداتها في ذلك التحيّل السياسي، الذي هو أعلى مراحل الفساد.