أخر الأخبار
رثاء حاتم علي: تغريبة حاتم علي الأخيرة
رثاء حاتم علي: تغريبة حاتم علي الأخيرة
سأعتذر منك طويلاً أن أقول لك على غير عادتي : وداعاً يا صاحبي.
وسيكون من حقّك عليّ هذه المرّة أن أغفر لك أنّك ، مضطرّاً ، تطيل الردّ على رسائلي واتصالاتي ، وندائي عليك . لكنّه ، لم يكن من فروض الصداقة واللباقة أن تبتعد أكثر مما ينبغي ، أو أن نتركك تمضي بعيداً في تغريبة روحك الوقّادة ، كما عهدتها .
لا وطنَ في المنفى إلا الحنين إلى ذاكرتنا الأولى ، هناك في دمشق . نكره المنافي ، هكذا اتفقنا في آخر لقاء لنا في القاهرة قبل ثلاث سنين على غداء دعوتني إليه في نادي في الزمالك ، ليس لأنّنا نخاف من ركوب الطائرات ساعات طويلة فحسب ، بل لأنّ قلبينا لم يعودا يحتملان كلّ هذه الندوب التي تقرّحت في أنّات وطنٍ أقام فيهما كطير مكسور الجناح ، يرقص في دمه.
كندا يا حاتم أبعد من موسكو بثلاث مرّات على الأقل . ومخيم اليرموك أو الحجر الأسود أقرب كثيراً . لكنّ الحرب أخذتهما من بين أيديهما ومن خلفيهما إلى حفلة دمار تليق بسيناريوهات تشريدنا ، لاجئين في مخيم اليرموك أو نازحين في الحجر الأسود، تحت طائلة تغريبة في مناف لا تطلّ على الوطن .
لا عليك . بل عليك أن تطير إلى هناك بحلم الحصول على جواز سفر، بعد أن توّهونا عن حلم العودة إلى الوطن الأمّ.
هذه البلاد لا تمنح قبلتها ، لمن هو مثلنا، إلا حين تعثر علينا جثّة في ركن ما أو شارع أو حادث سير فيها . وداعاً، إذن، صديقي .
وداعاً ، طالما الأمر كذلك . ولن يكون في مقدورنا يا حاتم أن نقلّب، ثلاثتنا وفلسطين معنا، النيّة والوقت والفكرة لإنتاج فيلم عالمي عن فلسطين تخرجه كما كنا نحلم .
اتفقنا في لقائنا الأخير ذاك، وأطلّ علينا الحلم كلّه برؤيا الدكتور عاطف أبو سيف وزير الثقافة الفلسطينية الّذي جعله قاب قوسين أو أدنى قبل أن يلفظ العام الماضي أنفاسه الأخيرة.
لم تعقنا الكورونا أن نتقدّم نحو الحلم هذا. رؤيا الفيلم الّتي قصّها الدكتور عاطف ، وأخذت منك ومنّي كلّ مأخذ، تؤصل لمتن السؤال الفلسطيني الأمّ.
ولا شك سنبقى أوفياء لمعالجتك الدراميّة في حال انتاج الفيلم يا صاحبي بعدك .
كما لم يعد بمقدورك أن تزور فلسطين ، حتى بجوازك الكنديّ، للمشاركة في احتفالات بيت لحم الثقافية العام المقبل ، بدعوة من وزارة الثقافة الفلسطينية ، وتقرأ الفاتحة على ضريح الشاعر الكبير محمود درويش الّذي اتصل بك نفسه في آخر زياراته لدمشق ، وحلّ ضيفاً عليك في بيتك. أذكر يا صاحبي عينيك وهما تتوقّدان وأنت تروي لي لأذكر.
-ألو . الأستاذ حاتم علي . -نعم ، أنا حاتم علي . - عفواً، من معي. -أنا محمود درويش . -نعم. عفواً .. -أنا محمود درويش أستاذ حاتم . -محمود درويش . أقصد الأستاذ محمود درويش . شاعر الأرض المحتلة !. -نعم . أريد أن أراك لأقول لك شكراً على التغريبة الفلسطينية . نعم . كلّنا قلنا ، و نقول . شكراً لك يا حاتم على التغريبة الفلسطينية . العمل العربي الوحيد الذي أرّخ للتراجيديا الفلسطينية الأولى . قلائل، يا حاتم ، يذكرون أن تغريبة أخرى أنتجت ، ولم يلتفت لها أحد . وأنك خضت مغامرة بإخراجها ، كون الهمّ الفلسطينيّ لم يكن يعني محطات أكثر مقدرة على شراء المسلسل . وحدك ومن معك ، وأنا منهم ، كنا واثقين بإبداعك الخلّاق لتصبح التغريبة شاهدة عصرنا .
وسأعتذر مجدّداً من سؤالي : هل تعب قلبك قليلاً يا صاحبي بعد أن حذفوها من منصة شاهد نت ، بعد استشراء وباء التطبيع مع إسرائيل . هذا ما حدث ، وما لم يحدث قد يكون الأعظم، بعد أن أصبح تاريخنا أشبه بعجوز يتكئ على عصا الماضي . كأنّي أذكر مجموعتيك القصصيّتين " ما حدث وما لم يحدث" ، و" موت مدرّس التاريخ العجوز". أنا الّذي كنت شاهداً على كتابتك لنص يرفعك درجات منذ مطلع الثمانينات ، وعلى تألقك منذ المهرجان الأدبي عام 1984، حيث فزتَ أنتَ بالجائزة الأولى مناصفة مع خطيب بدلة في القصة ، وفزتُ أنا ويوسف حطيني مناصفة بالشعر. ذكرتك اليوم، يوم رحيلك في التاسع والعشرين من ديسمبر عام الوباء بالكورونا، وخطيب بدلة الّذي أخبرني أنّك اتصلت به منذ سنوات لتسأله فيما إذا كان في حوزته سيناريو مسلسل . يا لوفائك يا رجل! .
مذ ذاك، وأنت تكتب ذاتك مبدعاً في السرد والتمثيل والإخراج ، وتجعل العالم أجمل مثلك ، فيما تظلّ تؤرّقنا ، كما كانت وكنّا، أسئلة الإبداع وزفرات الحرية و علامات الوجود. لكنّني بالفكاهة ذاتها الّتي أخّرت موتك ثلاث سنين منذ لقائنا الأخير ، سأذهب بعيداً في الحياة . و سوف يكون من الصعب حقاً عليك بعد الآن أن تتذكّر معي أيام سوريا ، وتتألم معي ، لما حلّ فيها .
تخيل ، آخر لقاء لنا فيها كان في مقهى الروضة قبل عشر سنين . تمرّ السنون كما تمرّ الحروب ، وما يبقى سوف يبقى. يبقى لك يا عزيزي أن أذكر عنك ما ذكّرتني أو ذكرت لي. نحن كلنا في تغريبة لا تطاق . نم بسلام يا صاحبي.