من الصعب تحديد الفواصل الزمنية بين العقود والسنوات، بشكل قاطع أو حاد، ذلك أن الأيام والسنين تَتَتابع في سلسلة لا تتوقف، أو تنفصل، لكن مع ذلك عادة ما يحاول المتابعون أن يقرؤوا التاريخ من خلال تقطيعه إلى حقب أو مجموعات زمنية، على أساس القرون أو العقود أو حتى السنوات، آخذين بعين الاعتبار حدوث أو وقوع أحداث مجلجلة خلال كل فترة زمنية، أو الإشارة إلى الإطار العام، الذي مرت فيه تلك الفترات، وعلى هذا الأساس يمكن القول إن العام الجديد الذي يحل هذا اليوم، رغم صعوبة توقع التفاصيل العامة التي سيشهدها، إلا أن حقيقة كونه يبتدئ عقداً ثالثاً من القرن الحادي والعشرين، يجعل منه بمثابة نقطة بداية ربما لحقبة مختلفة أو لعشرية ثالثة قد تشهد أحداثاً مختلفة عما شهدته العشريتان اللتان سبقتاها.
لن نذهب للعالم الخارجي بعيداً، ونحن نفضل أن نظل نبحث في تفاصيل ما يدور حولنا في بلادنا فلسطين، وفي عالمنا العربي/الشرق أوسطي، وبهذا الصدد نلاحظ أن العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين الحالي، كان أحد أهم سماتها ما سميت الحرب على الإرهاب، التي انخرط فيها أو انشغل بها معظم العالم الخارجي، بعد واقعة برجي التوأمين في نيويورك وواشنطن، وما تلاها من حرب إسرائيلية سعت إلى إجهاض مكتسبات ما بعد انتفاضة 87، خلال أعوام 2000 - 2002، كذلك الحرب على العراق واحتلال بغداد العام 2003، فكان أن شهد الشرق الأوسط حروباً قادتها الولايات المتحدة، أحدثت فراغاً سياسياً وسلطوياً، ملأته جماعات الإسلام السياسي المسلح، التي أخذت دولاً، مثل العراق وسورية للتآكل الداخلي.
وما أن حل العام 2011 مدشناً العشرية الثانية، حتى كان ما سمي الربيع العربي يجتاح وطننا العربي الكبير في العديد من الدول ليسقط حكاماً وأنظمة وحتى دولاً، وما زالت آثاره لم تنتهِ بعد، بما أضعف الحالة العربية خاصة في مواجهتها لإسرائيل، التي توّجت دفعها للحروب على العراق وسورية وغيرهما من الدول العربية بتدشين حالة التطبيع في آخر رمق للعشرية المنصرمة.
وهكذا يمكن القول إن العشريتين السابقتين كانتا وبالاً على العالم العربي، دُفعت خلالهما فاتورة انتهاء الحرب الباردة قبلهما بعقد آخر، والتي دشنت الحقبة الأميركية الكونية، وبعد حروب عسكرية في العشرية الأولى، وحروب سياسية - أمنية داخلية في العشرية الثانية، يبدو العالم العربي ومنه فلسطين على أعتاب صخب قد تكون سمته الرئيسة اقتصادية خلال العشرية القادمة.
وقد حددت انتخابات الرئاسة الأميركية التي جاءت على وقع «كورونا»، أن بوصلة الصراع بين الشرق والغرب، تتلخص في التنافس الاقتصادي بين أكبر اقتصاديْن في العالم، وهما الاقتصاد الأميركي والاقتصاد الصيني، ومقابل التحالف الاقتصادي الشرق آسيوي، تنوي الولايات المتحدة إعادة التحالف مع الغرب الأوروبي، على أساس اقتصادي أكثر، أي عدم اقتصاره على التحالف العسكري، المتمثل بشمال حلف الأطلسي، كذلك يشهد الشرق الأوسط إرهاصات حروب وصراعات حول منابع الغاز والنفط، إن كان في شرق البحر المتوسط، حيث تواصل إسرائيل محاولتها وضع اليد على أوسع بقعة غاز ممكنة بترسيم الحدود مع لبنان، ومنع عودة الدولة السورية، فيما تصطدم تركيا باليونان وأوروبا عموماً في الإطار نفسه، في الوقت الذي تسعى فيه إسرائيل، إلى تحويل التطبيع إلى رافعة لمد جسور التحالف الاقتصادي مع دول الخليج الغنية بالنفط والغاز، أما في إفريقيا فإن مصر العربية تواجه حرب المياه مع إثيوبيا، لما لذلك من أبعاد وتأثير على أهم ثروة بإفريقيا وهي الثروة المائية.
في العالم الخارجي تعتمد الحرب التجارية على المنجزات التكنولوجية وعلى الصناعة بتنوعها، أما في الشرق الأوسط فإن حرب الاقتصاد تستند للثروات الطبيعية من غاز ونفط ومياه، كذلك طرق التواصل الإقليمي مثل قناة السويس وباب المندب وخليج عدن، إضافة لهرمز وغيرها، من طرق وممرات تقليدية، في محاولة لكسر ما هو تقليدي لصالح مستجد، قد يشهد فتح الطرق الواصلة بين خليج النفط والغاز عبر البر، ارتباطاً بالتطبيع بين إسرائيل والخليج، وهذا ما يكشف أو يؤكد تطلع إسرائيل لانضمام السعودية لقطار التطبيع، لأنها تقع جغرافياً بين الخليج وإسرائيل، وليس ارتباطاً بمكانتها وتأثيرها على دول الخليج والدول العربية والإسلامية فقط.
تنفتح العشرية الثالثة من القرن الواحد والعشرين إذاً على احتمالات كبيرة، أهمها، أن شكل العالم سيكون مختلفاً كثيراً عما كان عليه قبلها، وإذا ما نشأت حرب كونية باردة جديدة، فلن يكون طابعها سباق التسلح، كما كان حال الحرب الباردة في القرن العشرين، بل سباق الإنتاج والتفوق الاقتصادي، لذا فإن التنافس سيكون على الثروة الطبيعية، وفي حقل الاختراعات والاكتشافات وتطوير ما هو موجود حالياً من تقنيات وبرامج تستخدمها البشرية بأسرها.
وحيث إن بداية العام ومنذ أكثر من نصف قرن مضى، تبدأ في فلسطين بذكرى الثورة المعاصرة، فإنها مناسبة لمراجعة كل ما مضى، ومحاولة تحديد إطار جديد للمواجهة، لا يعتمد بشكل أساسي أو وحيد على الموروث، ولا على المنجز والمتحقق، وبعد أن كانت البندقية هي رمز انطلاقة الثورة قبل 56 سنة، وبعد أن تحول الحجر، أو النضال الشعبي/السلمي ومن ثم السياسي، إلى أهم أدوات الكفاح خلال العقود التي تلت انتفاضة 87، فإن انطلاقة جديدة، لا بد أن تلحظ البعد الجديد المتمثل بالاقتصاد.
ولعل اعتماد إسرائيل خلال السنوات القليلة الماضية، ومعها أميركا على الضغط الاقتصادي، بعد فشل الحروب العسكرية وفشل الضغط السياسي، يؤكد نجاعة هذا السلاح، الذي بات سلاح العصر ومبعث القوة والضعف في كل مكان من العالم، وهكذا يمكن للوطنية الفلسطينية أن تبحث باستفاضة عن مكامن قوتها في هذا المجال، فإن لم تكن هناك ثروات طبيعية، فهناك ثروة بشرية، وهناك الحاجة أم الاختراع، وعالم يسير بسرعة وقوة نحو التجانس البشري، يلفظ بالضرورة التعصب والتمييز والقهر القومي والعرقي، وهذه كلها سمات دولة الاحتلال الإسرائيلي، التي تواصل غرقها في بحر اليمين والتطرف الداخلي، ومن يدخل العصر الحديث مبكراً يجد له مكاناً فيه، أما من يواصل النوم في الزمن الماضي، فإنه يجد نفسه على قارعة الطريق، أو على أقل تقدير مفعولاً به، وليس فاعلاً في عالم متداخل ومتفاعل فيما بين مكوناته وعناصره البشرية كافة.