انقضى عامٌ زحفت فيه ديمقراطيةُ العالم على بطنها ، وكادت تأكلُ نفسها وتنسِفُ أركانها ، وسيدة العالم "أمريكا" قد غشاها وأرخى عليها ليـلٌ ، لا زالَ يهــدِّدُ حاضرها ومستقبلها ، فها هي وقد عزمت على تغيير جلدها ، تجدها رهينة تخبطاتٍ مزاجيةٍ وزعرنةٍ سياسية ، يقـــودها ويُحرّكها رئيس مسعور ، في سابقةٍ لم تحدث في تاريخ أمريكا ، سابقة ربما تُفجِّر الأوضاع الداخلية بحربٍ أهلية مُدمـرة ، أو تجــرُّها إلى مواجهة عسكرية شرسة مع إيران ؛ هذا الرئيس الذي يخفت ويغيب صريخه وحمحمته تارةً ويعود ، وهو لا زال يُغرِّدُ في سربِ "أضاعوني وأيُّ فتىً أضاعوا" ، غيرَ آبهٍ بما قد يكون من نتائج كارثية على بلده والعالم ، يقاتلُ قتال المستميت ، غيرَ مُقتنع بانفــراطِ عُقــد جبروته ككرة الغزلِ شيئاً فشيئاً ؛ ليأتي بعـد أيام معدودة رئيسٌ آخر يقودُ زمام البيت الأبيض ، رئيسٌ اتجهت إليه أنظار العالم أجمع والشرق الأوسط على وجه الخصوص ، باعتباره الشخصية التي وعدت بفك كل أسرار المنطقــة ومعالجة خراب الرئيس المُنفلت ، وتقزيم مُستبديها ودحرهم وقصقصة أظافر البعض منهم ؛ رئيسٌ ثَقُلت أحماله كثيراً حتى باتت تأكلُ مما تبقى من سبعينه ، قبلَ أنْ يُباشر عمله رسمياً ؛ وحتى ذلك الحين تبقى مخاوف وآمال العالم المترقِّبِ هنا وهناك ، تتبعثرُ وتلتئم من يومٍ ليوم.
انقضى عامٌ مظلمٌ مُريبٌ لفَّ حسناءَ العَرب (فلسطين) ، وذرَّ في عينيها رمــال التَّنصُّل من قضيتها ، والعناق العذب مع عدوِّها وعدو العرب ، حينما ارتمت دولٌ عدة في أحضان الكيان المحتل ، مفتونةً بانفتاحات السلام ، الذي لا يحملُ في ملفاته غيرَ الإذلالِ والاستسلام والخُنــوع ، والاستعمار في صورته الجديدة ؛ فباتت فلسطينُ تندُبُ حظَّها مع استنزافِ أنفاس القومية العربية يوماً تلو يوم ، لتبقى وحدها في ميدان النِّضــال والتَّحرر ؛ فهل سيكون لهذه المُهــرةُ العربية الأصيلة في سباقِ الأيام القادمة وجهاً آخر في مجابهة تعنُّت الاحتلال؟ أم سيكون هناك تداعيات وخططٌ جديدة لملف القضية من خلال الإدارة الأميركية الجديدة؟
انقضى عامٌ ملوَّثٌ بالعـديد من التَّحديات العقائدية والانسانية والمعيشية ، التي استفزَّت جموع المسلمين في شتى أنحاء الأرض ، حين غمــزَ السَّفيـه "ماكرون" بالسخرية والاستهتار من نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم ، وراحَ يستقوي بحُمق الحريات التي يدَّعيها ، بالتطاول الفَــج على أشرف الخلق ؛ فكانت وحدة المشاعر والكلمة ، والغضب والاستنكار العريض الذي قُوبلَ به من مسلمي العالم بأسره ، مما جعله عُنواناً آخراً للاحتقــار والدَّناءة والقُبـح ، وأوقعه في فخِّ مقاطعة مُنتجات بلده ؛ ومع هذا الحماس الفطري الذي كان كالبركان في وجه فرنسا ، فإنَّ مُستجدات السياسة في الأيام القادمة لا تكفَل استمرارية المقاطعة من عدمه؟ أو إبرام اتفاقيات جديدة مع فرنسا وبعض الدول الاسلامية لغايات تقتضيها مصالح الدول؟
انقضى العام السابق ، ولا تزالُ الكمَّامة تلتقط عطسات العالم أجمع ، وتستُرْ خشخشة الصوت المكسور ، وتُخفي تحتها أنين الأيام ، التي قلَّبت النَّاس على صفيحٍ ساخنٍ ، بين أمالٍ ضائعة وجوعٍ سافرٍ ونحيبٍ جائر ؛ انقضى العام والكمَّامة صامدةٌ على أفواهنا ، لا ترى منَّا سوى العُيون التي جفَّت مآقيها جزَعاً وبؤساً ويأساً وارتباكا ؛ الكلُّ خلف الكمَّامة وباب البيت سواء ، فلا الشَّارب بين الشِّدقين يُرى ، ولا رَطب الشِّفاه تُميلُ غُصناً أزهرا ؛ تُرى هل يكون عام 2021 عام الاحتفال بخلع الكمامة وعودة الأنوفِ لشمِّ رائحة الحياة كما اعتادتها؟ أم سيسيطرُ الهَلَــع من جديد على النّاس في مجتمع السلالات الكورونية المتوالدة من جديد؟
انقضى عامٌ مليءٌ بالويلات والخُطــى المتعثرة ، امتلاءَ بيتٍ مُفخّخٍ بالجوع في ليلةِ حظر ؛ البيتُ الذي رشَقته الأيامُ بهلاميات "كورونا" وتقرُّحاتها ، حتى غدا أهلهُ كالماشي وليس لهُ حذاءُ ، وكالمُبصــر الذي فقد جوهرتيه ذاتَ كُسوف ، فصارَ يتلمَّسُ جيبَ الزَّمان ويبحث في "جُيوب" الدَّار فلا يجدُ ما تلتقطهُ يداه ، ويحثو بعصاه الأرض فلا تتمخّضُ عن شيء ، بيتٌ أغلقت ستائرُ "كورونا" كاملَ نوافذه ، التي كان يتسرَّبُ منها بعضُ هواء ، يمنحُ النَّفسَ والعَون والهمَّة ؛ فهل تروي الأيامُ القادمة للظامئ ظمأه؟ أو تسدُّ للجائع جوعه أو تردُّ للمُلقى على جنبيه عملَه ووظيفته؟ أم سيُقلعون جميعاً في فضاءٍ آخرَ يُغنُّون فيه لزمان الخوف والصمت والشَّكوى؟
انقضى عامٌ ممتــدٌ بفراغِ الطٌّرقات وطوابــيرِ الخبز السَّاكنة ، وصفـوف الرواتب الكَسلى وباقــاتِ المعونات والدَّعــم ؛ عامٌ ذِبلت فيه شمسُ النَّهــارِ منذُ موسم التين والعنب ، على سبيلِ كُسوفٍ هايجيني ، أدمنته العُقول واختمرت به الكفوفُ ؛ عامٌ طفَــحَ وحــلاً على كلِّ ذي عازةٍ وفاقة ، فاستمرأ عليه حتى تصَّلبت أوردة صبره وطاقته ، ونسفَ مداخيل الأغلبية اللاهثة ، التي تعملُ كي تعيشُ وتعيشُ كي تعمل ، ليلاقوا أنفسهم كالذبيحة بين ساطور "كورونا" وسكين الحظــر ؛ فماذا عساه أن يحملَ لهم هذا العام الجديد؟ هل سيبقى الرِّيــقُ يابساً في أوردة البيوت؟! وهل يَرى هؤلاء انكساراتهم ماثلةً في عيون مَن حولهم ، يُلقونَ عليها تحيَّة الراحلين كل يوم؟! أم سيحلبون الغيــم لإلهــاءِ أطفالهم بحليبِ السَّماء؟!
انقضى عامٌ جــارفٌ من الألم والخوف وانتظار المصير المجهول ، أمام ضبابيةٍ إعلامية مُزيَّفــة مُخادعة ، تلعبُ على وترِ العواطف والإنسانيات كيفما تشاء ، فتارةً تتساقط الوفياتُ كالدُّمى ، وتارةً يضيقُ خناق الموت ، وتارةً أخرى يتواردُ الكلام بين النَّفي والتأكيد من هذا وذاك حول جدوى لقاح الوباء ، واحتمالية انتشار سلالاتٍ جديدةٍ منه ، حتى أصبحَ الكل مستشارٌ طبي أو خبيرٌ دوائي ، وصارت "كورونا" مشاعاً لكل من يريدُ أن يبني انجازاً ووهمــاً على الشاشات من المسؤولين ؛ ولعلَّ هذا التقاطع هو ما يزيدُ مساحة الغموض والسوداوية للعام القادم ، ويؤكدُ الانفلات الكبير في التعامل مع هذا الملف الخطير ؛ فهل يتجه العالم في عامه الجديد إلى الارتقــاء بسلاح الاعلام بشكلٍ مسؤول ، ليخاطب الجماهير بمستوىً عالٍ من الثقة والمصداقية والاحترام؟! بحيث "يُعطى الخُبز لخبَّازه" كما يُقال ، ويُستبعدُ أولئك المتشدِّقون بالعلم على غير علم ، والمُعتقدون بأن الياقة الحمراء وربطة العنق تُخوِّلهم بأن يهرفون بما لا يعرفون.
انقضى عامٌ وطبولَ التَّقدمِ نحو التجهيل عن بُعد تدقُّ وتدكُّ حصونَ التعليم ، لتبقى العقول في رُقـودٍ ورُكـودٍ وصُـدود ، وتصغُـرَ عباءة التعليم الضَّافية ، وتُجـرَّدَ كلُّ معانيها وقيمها العظيمة ، لتقدَّم للطالب كالوجبات السّريعة في بوتقةِ فلمٍ سينمائي ، خدشَ كُل نُظُــم وأهداف ورؤى العملية التعليمية ؛ عامٌ غربَلَ ما علقَ في الأذهانِ من علم وتربية ، وغدا ينكأ جروح الجهــل من جديد ، ويهشِّم حسُّ الانتماء وحُبِّ الوطن في نُفوسٍ لا تزالُ معبَّأة بإشراقة تحية العَلم ؛ فهل سيشهدُ العام الجديد إسعافاً وإنقاذاً للتعليم؟ وهل سيعود الطلبـة إلى صفوف المدارس ، حيث يجب أن يكونوا؟ أم سيستمر في الانزلاق إلى هاويةٍ لا مَردَّ منها؟!
انقضى عامٌ بكتْ لياليه النَّدى والبأسَ والحَزمَا ، فما بين ابتساماتِ الأطفال المكبوتة في مضائق البيوت ، وفاجعة المدائن الفارغة من حميمية العلاقات ، وشجن المدرسة التي انتحرت الحقائبُ والأقلام والأحلام على أسوارها ، وحـداء المحــلات التجارية والقطاعات موصودة الأبواب ، وســاعة الجمعـة البروتوكولية العجيبة ؛ يذهبُ المتنبئون لمجريات العام الجديد إلى بعيد ، إلى الحد الذي تختلط فيه الرؤى ، ويرحلُ عنه المنطق والعقل البشري ؛ كأن يتوقّع أحدهم استحداث حظر يقوم على منع الحديث مع الآخر ، أو منع الحركة والحديث داخل البيت الواحد ، أو حظر المكالمات الهاتفية في ساعاتٍ محددة ، أو إيقاف وسائل التواصل الاجتماعي خوفاً من عدوى الاشاعة ، الأمر الذي يكون حينها أشدُّ ثقلاً على البشر من "كورونا" ؛ فإلى أي طريقٍ سيوصلنا العام القادم؟ لسنا بعدُ على علمٍ بما سيكون.
"بكلِّ ما أُوتيتُ من فرَحٍ أُخفي دمعتي" ، حتى لا أرسمُ مشهداً للحُزن والألم والخيبة ، فكيف بِمَن لم يطأ الفرحُ له أرضاً ، ولم يطرق له باباً؟! فإلى تلك السنة ها نحنُ سائرون إن شاء الله ، ولا ندري إلى أين نحنُ رائحون.