احد الردود الذي وصلني حول مقالة كتبتها عن «أزمتنا الحضارية» كان لافتا ومفاجئا ،يقول هل تريد ان تعرف لماذا تراجعت امتنا وتقدم غيرها من الأمم؟ اعتقد -بصراحة - ان وراء ذلك مشكلة نظنها بسيطة ، وهي - في الحقيقة اخطر من «الأسلحة» النووية ، مشكلة تشغلنا عن العمل والانجاز ، وتزرع بيننا الفتن والحروب والصراعات وتدك عمراننا «الإنساني» وتزعزع ثقتنا بأنفسنا وبمن حولنا ، مشكلة اسمها «النميمة».
هذه الكلمة -يضيف القارئ - غير موجودة في قواميس الأمم المتحضرة ، فأنا أعيش في امريكا منذ اكثر من ثلاثين عاما ، ولم الحظ ان الناس مشغولون ببعضهم ، لكنها -للأسف - متداولة على مدار الساعة في حياتنا وفي مجتمعاتنا العربية ، انها -انجازنا الحضاري -ربما الوحيد - في هذا العصر ، الكل يمارسها ويتفنن في ايجاد ما يلزم من مناخات وصياغات و»فبركات» لها ، داخل الأسرة بين الازواج والابناء ، في المؤسسات والعمل بين اقطار الأمة الواحدة وبين عالمنا والآخر ايضا.
نميمة اجتماعية ، واخرى سياسية ، وثالثة باسم الدين او الثقافة او حتى القيم الفاضلة نفسها ، نميمة «تعبث» بكل شيء ، حتى لو كان مقدسا ، وتولّد الكراهية بكافة اشكالها ، وتدفع الى القطيعة وتؤجج نيران الحقد وتغري على الثأر وتثير الصراعات وربما الحروب وتضرب أوردة المحبة وتعيق العمل وتشغل الوقت «بالوهم» وتفرق الناس يمينا وشمالا.
ازمة مجتمعاتنا -كما يقول القارئ - ازمة «نميمة» لدينا ثقافة «نميمة» مترسخة للأسف ويصعب اجتثاثها ، ونخب من «النمّامين» الماهرين وقيم جديدة سوّقت لنا النميمة تارة باسم الشطارة والنباهة والدهاء ، وتارة باسم الشجاعة والصراحة والغيرة على المصلحة العامة ، ولدينا -ايضا - مناخات «قابلة» لاستقبال هذه الآفة ، واحتضانها وتمجيدها ، ولواقط جاهزة باستمرار «مع نعمة التكنولوجيا» لالتقاطها وتمريرها بسرعة.
سألني عن «التدين»: لماذا لا يتحرك لمواجهة «النميمة» ، اقول: إنه يحاول ان يفعل ذلك ، لكن المسافة التي اتسعت بين ديننا الحنيف الذي اعتبر هذه الآفة من الكبائر وبين تديننا الذي تعددت انماطه ، واختلت موازينه هي التي جعلت ديننا ، بما فيه دعوة للالتزام بالقيم الفاضلة في واد وتديننا - فهما وتطبيقا - في واد اخر.
ربما تسألني: ما النميمة؟ اقول: هي نقل الكلام بين طرفين لغرض الإفساد ، وإفشاء السر وكشف الستر عما يكره كشفه ، اما أغراضها فهي ارادة السوء للمحكي عنه والتزلف الى المحكي اليه ، وتسألني عن عقابها فأقول: جاء في الحديث الصحيح «لا يدخل الجنة نمّام» في آخر «شرار عباد الله المشّاؤون بالنميمة ، المفرّقون بين الأحبة ، الباغون للبراء المعايب» وروي عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه انه دخل على رجل ذكر له شيئا عن رجل آخر ، فقال له عمر: ان شئت نظرنا في امرك فان كنت كاذبا فأنت من اهل هذه الآية «ان جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا» وان كنت صادقا فأنت من اهل هذه الآية «همّاز مشّاء بنميم» وان شئت عفونا عنك ، فقال: العفو يا امير المؤمنين ، والله لا اعود لهذه ابدا.
هذا بعض ما ذكره الامام الغزالي في الجزء الثالث من «احياء علوم الدين» لمن يريد الاستزادة ، لكن اعتقد ان في حياتنا من الصور والتجارب ما يكفي لمعرفة آثار النميمة وعواقبها على أصحابها والآخرين ولتحصين ابوابنا من دخول جراثيمها القاتلة... والله المستعان.