يوم الثلاثاء الماضي، أُجريت في دولة الاحتلال انتخابات الكنيست، وكانت الرابعة خلال عامين.
بقدر ما يؤشر ذلك على ترسخ العملية الديمقراطية في دولة الاحتلال، فإنه يؤشر في نفس الوقت على حالة من فوضى الديمقراطية. ويؤشر على درجة استثنائية من صراع القوى السياسية وتراجع كبير في المشتركات فيما بينها بما يتعلق بأمور الدولة والسلطة والموقع فيهما، ولصالح أولوية التنافس الحزبي – والشخصي الزعامي أيضاً.
ما يميز هذه الانتخابات أنها دارت، مثل المرات الثلاث التي سبقتها، بشكل عميق وسافر، كصراع مفتوح على السلطة، بين قوى اليمين على تنوع تشكيلاته وتدرجاته الدينية والعصبوية والسياسية، وبحضور هامشي لبقايا قوى وسطية، وغياب شبه تام لقوى يسارية، حتى تلك التي كانت تحتل حيزاً مؤثراً في الحياة السياسية وفي مواقع قيادة الدولة (حزب العمل مثلاً).
وهذا ما يفسر ضعف وهامشية الفوارق في البرامج تجاه الأمور المتعلقة بذات دولة الاحتلال وبرامجها وسياساتها.
وهو ما يفسر بشكل أوضح الموقع الهامشي في البرامج والسياسات والمواقف تجاه القضايا المتعلقة بالشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية، وتجاه الاحتلال والتمسك باستمراره ودوامه واغتصاب أراضي الوطن الفلسطيني، وكل ما يتعلق بذلك من سياسات ضم وتوسع واستيطان وقهر واغتصاب، وتنكر لأي حق من الحقوق الوطنية والسياسية وحتى الإنسانية.
ويميزها أيضاً أنها تمّت في حضور طاغ ومهيمن لشخصية نتنياهو على المشهد الانتخابي، بكل قدراته ومناوراته وألاعيبه، وتلاعبه بكل الأوراق لفرض تلك الهيمنة، لدرجة ينطبق عليه المثل الشعبي المصري «يلعب بالبيضة والحجر».
وهنا أيضاً، لا بد من الاعتراف بأن نتنياهو يلعب بالأوراق التي بين يديه بدرجة استثنائية من الاقتدار والخبرة والحنكة. مستفيداً في ذلك من الخبرات والقدرات التي راكمها خلال ثلاثة عقود من الحياة السياسية وست دورات في موقع المسؤولية الأولى (رئاسة الوزارة). وأنه يوظف كل قدراته المكتسبة على المناورة وتقسيم صفوف المناوئين، والإغراء وشراء الولاء، مجيراً لصالح ذلك التحالفات الدولية التي بناها عبر فتراته الطويلة في الحكم.
ومستفيداً أيضاً، من إنجازات عديدة وأساسية لا يمكن إنكارها نجح في تحقيقها ومراكمتها لصالح دولة الاحتلال.
لم يقلل من هذه الهيمنة وجود التهم القضائية ضد نتنياهو واستمرار خضوعه للمحاكمة، ولا قللت منها التظاهرات المتكررة التي تطالبه بالمغادرة.
نتائج الانتخابات تقدم صورة معقدة، وتجعل مهمة وقدرة نتنياهو وحزبه الليكود على تشكيل حكومة تقترب من الاستحالة، وتفتح باباً واسعاً أمام احتمال الذهاب إلى دورة خامسة من الانتخابات، مع أنه لا شيء يضمن أن الدورة الخامسة ستحدث تغييرات جوهرية على الصورة المعقدة الحالية.
وحين تكون «منى نفس» نتنياهو تحقيق أغلبية 61 عضواً في الكنيست ليشكل وزارته، فإن هذه الأغلبية لن تتحقق، والوزارة لن تقوم إلا على مساومات وتنازلات يقدمها نتنياهو، ليس أسهل من انفراطها أمام أول عقبة أو استحقاق أو خلاف لتعود بالوضع سريعاً إلى مربع الانتخابات الخامسة.
ومع ذلك، فإن نتنياهو يبدي استعداداً واضحاً للدخول في المساومات، وتقديم التنازلات والإغراءات المطلوبة لأي قوة سياسية تساهم في تأمين الأغلبية المطلوبة. وحتى لو وصل الأمر إلى إغراء شخوص بذاتها وسلخها عن قائمتها. المهم كما أعلن صراحة عدم الذهاب إلى انتخابات خامسة.
وتصل الأمور مع نتنياهو، في مسعاه لتحقيق منية النفس المذكورة (أكثرية 61 صوتاً في الكنيست)، إلى مغازلة قائمة الحركة الإسلامية الفلسطينية «القائمة العربية الموحدة» ورئيسها منصور عباس، ويبدي الاستعداد للتعاون معها سعياً وراء تأييد مندوبيها الأربعة الفائزين بعضوية الكنيست ليؤمّنوا له العدد المنشود.
وفي هذا الموقف يكشف نتنياهو عن درجة استثنائية من الانتهازية، وعن تناقض استثنائي مع قناعاته ومواقفه المعروفة. فهو تاريخياً وحتى الأيام الأخيرة يعتبر كل الأعضاء العرب في الكنيست مدافعين عن الإرهاب، ويعتبر الحركة الإسلامية فرعاً فلسطينياً لحركة حما.
وموقفه لا يزال طازجاً في الأذهان، حين وجّه النداء إلى الناخبين اليهود ليهرعوا إلى صناديق الاقتراع لمعادلة الإقبال الواسع للناخبين الفلسطينيين في انتخابات سابقة؛ خوفاً من أن يُحدث ذلك اختلالاً ولو محدوداً في توازن القوى داخل الكنيست.
أما من جهة القائمة العربية الموحدة، فموقفها ودرجة تجاوبها مع محاولات نتنياهو لا تزال غير واضحة وغير محسومة بالدرجة المطلوبة. يعبر عن ذلك التصريح المنقول عن رئيسها: «على كل من يريد منع إجراء انتخابات خامسة أن يتواصل معنا. نحن مستعدون للاتصال بالطرفين، ومع أي شخص يريد تشكيل حكومة ويعتبر نفسه رئيس وزراء المستقبل».
وهذا موقف غير طبيعي، والأمل أن تحسم القائمة الموحدة، والحركة الإسلامية من ورائها، موقفها بالرفض العلني والحاسم.
يكفي القائمة الموحدة أنها شقّت التمثيل الفلسطيني بخروجها عن القائمة المشتركة ومنافستها لها على أصوات الناخب الفلسطيني، وأنها خاضت الانتخابات بقائمة مستقلة ومنافسة للقائمة المشتركة. وهو ما أدى، إلى جانب عوامل أخرى، إلى تراجع مجموع التمثيل الفلسطيني.
دولة الاحتلال أمام خيارَين أحلاهما مر: إما الذهاب إلى انتخابات خامسة قبل أيلول القادم، أو حكومة تعشش فيها التناقضات وتقوم على المساومات، ما يجعل عمرها قصيراً وتقود أيضاً إلى الانتخابات الخامسة.