بعد «حرب السفن» التي أطلقتها منذ ثلاثة أعوام في البحار والممرات المائية ضد السفن والناقلات الإيرانية، ها هي حكومة نتنياهو، توسع نطاق اعتداءاتها على منشآت طهران النووية، وتضرب للمرة الثانية، موقع «ناتنز» الاستراتيجي في غضون ستة أشهر فقط.
استراتيجياً، إسرائيل أعلنت الحرب على برنامج إيران النووي، لا يهم إن كان مدنياً أو عسكرياً، فمن منظورها، لا ينبغي لإيران أن تكسر الانفراد الإسرائيلي في تملك التكنولوجيا النووية، حتى وإن أخضعت طهران، كافة منشآتها النووية، لرقابة الوكالة الدولية، فإسرائيل حين يتعلق الأمر بـ»أمنها القومي»، لا تثق بأحد، لا بالوكالات الدولية، ولا بالولايات المتحدة ذاتها، حليفتها وشبكة أمانها، وراعية تفوقها الاستراتيجي.
تكتيكياً، تبدو الضربة لـ «ناتنز»، خطوة استباقية، تستهدف تبديد مناخات الانفراج التي خيّمت على مفاوضات فيينا الأخيرة، ومحاولة لقطع الطريق على عودة واشنطن للاتفاق النووي، وإعادة إدماج إيران في الاقتصاد العالمي، بمختلف أدواته المالية وأسواقه، ورفع العقوبات عنها...هذا تطور خطير يُبقي إسرائيل وحيدة في المواجهة مع طموحات إيران النووية، ومجردة من الدعم الدولي، باستثناء التأييد المضمر من حفنة من دول المنطقة، التي لا تتوفر على «قيمة مضافة» في حسابات القوى وموازينها، بين إيران وإسرائيل.
العدوان الإسرائيلي الجديد على إيران، يبعث برسائل عدة، محمّلة بإشعاعات نووية، كان يمكن أن تكون قاتلة ومدمرة: الأولى؛ لإدارة بايدن، ومفادها أنها لن تُبقي سلاحاً دون استخدامه لتعطيل مقاربتكم الجديدة حيال طهران...والثانية؛ لإيران، ومؤدّاها لا تطمئنوا إلى سلامة برنامجكم النووي، فإسرائيل تقف له بالمرصاد، حتى وإن ارتضى العالم بأسره، بحقكم في امتلاك التكنولوجيا النووية...والثالثة؛ لبعض حلفائها «المستجدين» في المنطقة، وتقول: لا تقلقوا إن تخلت واشنطن عن وعود ترامب وهوسه بمطاردة إيران، فلديكم في إسرائيل، صديقاً موثوقاً، وحليفاً يمكنكم الركون إليه.
من ناحية منطقية (أمنياً وسياسياً)، كان يتعين على إسرائيل أن تُبقي على «غموضها غير البناء» في حالات من هذا النوع، وهذا رأي المستوى الأمني والعسكري فيها على أية حال، لكن حاجة نتنياهو لتسجيل «الانتصارات» في هذا الظرف الحرج له، سياسياً وشخصياً، دفعته للبوح عن مسؤولية كيانه عن العملية... يبلغ «الهوس» و»صراع البقاء» بنتنياهو حد المقامرة بأمن إسرائيل والمجازفة بتلقي اللوم والانتقادات الدولية على فعلته النكراء.
على أنه «هوس» يخفي من ورائه «جنون عظمة»، فنتنياهو ذاته، يصرح بأن إسرائيل تخطت حاجز «القوة الإقليمية الضاربة» لتصبح «قوة عالمية»...الرجل لا يكتفي على ما يبدو بأن تكون إسرائيل واحدة من ثلاث قوى إقليمية نافذة (إلى جانب تركيا وإيران)، بل يقدم نفسه وكيانه على أنه القوة العالمية الصاعدة.
لقد وضع الاعتداء على «ناتنز» طهران وواشنطن في خانة ضيقة: بالنسبة لطهران، لا شك أنها في حيرة من أمرها، فهل ترد «التحية الإسرائيلية بمثلها» أو أشد منها، وتقامر بخروج قطار المفاوضات عن «سكة فيينا»، أم «تتجرّع» الضربة التي تخطت الإهانة إلى الحاق إعاقة ببرنامجها النووي، لا نعرف حجمها ومداها حتى الآن...أما بالنسبة لواشنطن، فلن يعود كافياً بعد اليوم، الاستمرار بسياسة «النأي بالنفس» عن العربدة الإسرائيلية، وإلا غلّفت الشكوك استراتيجيتها الجديدة: «أقصى الديبلوماسية»...وسيصبح من حق طهران أن تعتقد بأن واشنطن وتل أبيب، تتبادلان لعبة «الشرطي الجيد والشرطي القذر»: واشنطن تلعب دور الشرطي الجيد، وتمضي في «أقصى الديبلوماسية»، وإسرائيل تلعب دور الشرطي القذر، وتواصل «أقصى الضغوط»، بما فيها استخدام القوة، وليس التلويح بها فقط.