قبل أن تطال يد الترميم مسجد بلدتنا الذي يناهز عمره 111سنوات، كان في جدرانه الخارجية كوات واسعة، تشبه الخزائن. تستخدم لغرض عظيم ونبيل، فالذي يؤد أن يتصدق برغيف خبز، أو قطف عنب، أو سلة تين، أو مدهنة زيت، يضعه في هذا الكوة ويمضي.
حين يخيم الظلام، وتركد الحركة، يأتي المحتاج متسللاً، ويمد يده في الكوة، ويأخذ حاجته. يومها كنا نخشى أن نخدش مشاعر الفقراء. وصرنا اليوم نحرثها بسكة عميقة، ونثلمها بفؤوس الاستعراض، والعرط الفاضي.
على سبيل التفاخر، أخبرني مسؤول إعلامي بمؤسسة كبرى قبل سنوات أنه تفاجأ بالكم المهول من الإستدعاءات التي تطلب المعونة وتشرح الأحوال والأوحال، هذه الرسائل تلقاها رئيس المؤسسة، خلال زيارته محافظة تغرق في جيب الفقر حتى شوشة رأسها. قال بالحرف الواحد: طرمنا (ملأنا) السيارة بالاستدعاءات وطلب المعونة.
ساعتها غصت الدمعة بعيني، وتبركنت كريات دمي، فقلت بغضب: أنتم من علم الناس، وطبّعهم على (الشحدة) والتسول والابتذال، أنتم كسرتم عفة أنفسهم. أنتم مسؤولون عن هذه المهانة والجرجرة. إن كنتم تريدون العطاء اعطوا دون أن تجروحوا المعوزين، وتمرغوا أحاسيسهم بوحل الذل. ساعدوهم بصمت. لم يعجب المسؤول كلامي، بل لوى شفتيه، ثم قفز إلى موضوع آخر مع صديق يرافقني.
يتذكر أهلنا في بداية ثمانينيات القرن الماضي، أن الناس كانت تأنف وتعف أن تتلقى المساعدة من أحد، حتى أن أضاحي الحجاج في بداية مشروع وصولها، لم يأبه بها إلا القلة من الناس. وأن صندوق المعونة الوطنية في بداياته، كان يجد صعوبة باقناع الفقراء للتقدم بطلب إليه.
قبل ثلاث سنوات أطلقتُ صيحة في هذه الزاوية ألا نصوّر أية مساعدة تقدم إلى الأسر العفيفة ولا نصور طرود الخير وهي تسلم لهم. والأطفال خصيصاً. وأن تلك الطرود يجب أن تصل إلى بيوتهم تحت جنح الظلام، بلا (شوشرة أو هوبرة). لا تذبحوا الناس بسيف التشهير والتزمير. اتركوهم ينهضوا من فقرهم بعزة نفس.
نعرف أن إظهار الصدقة ليس محرماً ولا عيبا، وأنه أحياناً يشيع حالة تحث الآخرين على أفعال الخير، ولكنه من جانب آخر يكسر كواهل الفقراء، ويقصم ظهورهم ويخترق حاجز عفتهم.
وفي القصة الشعبية أن رجلاً استأجر جزاراً لذبح أضحته. الجزار بدل أن (ينبّها) عن صاحبها، أي أن يقول عند الذبح هذه عن فلان بن فلان، نبّها عن نفسه. صاحب الأضحية الذي سمع همس الجزار؛ ضحك ملء فمه قائلاً: الله يعرفُ من دفع القروش.