هل القدس التي لا تعرف الاستسلام للقوة التي تريد أن تتحول لقدر يفرض نفسه بالسلاح، هي مدينة الصلاة وهي المدينة التي يحيي هذه الأيام أبناؤها المسلمون ليلة القدر ويحيي أبناؤها المسيحيون قيامة نبيهم وهي تنزف دما أمام مرأى ومسمع العالمين المسيحي والإسلامي.
هي القدس التي لم تنحن ولم تسجل في تاريخها أنها سلمت للأعداء أو تأثرت هويتها بكل العابرين الذين أرادوا أن يسجلوا في دفتر اللاشرف الحافل بالغزوات والمذابح بأنهم احتلوا درة الكون وسرته ومالكة سره ولكن جميعهم هُزموا وظلت القدس حاضرة عربية تشهد عليها لغتها وحجارتها ولونها وتراثها وهويتها وكل شيء فيها.
فالهويات ليست واقعا تصنعه دبابة أعلن قائدها في مكبرات الصوت أنه سيطر عليها، بل هي تراكم آلاف السنين كما الطبقات الصخرية، وللمدينة تاريخها المكتوب على حجارتها العتيقة.
في كل مرة وعندما يخفت وهج القضية تعطي القدس شرارة النور لتضيء كل فوانيس عتمة السياسة وصمت العرب والعالم، وتعيد فرض القضية الفلسطينية على الأجندة الدولية كقضية مشتعلة ولا تنهزم أو تنتهي كما يخطط الإسرائيلي وكل المتحالفين معه والآخذين بالتآكل لأن شعبية وحضور إسرائيل يتراجع على مستوى العالم إلى الدرجة التي بات بعض مريديها يخجلون من إعلان تأييدهم، ويتزايد الحضور الفلسطيني في العالم بما فيه في أكثر المؤسسات تأييداً لإسرائيل مثل الكونغرس وفي الإدارة الأميركية.
بعد تهدئة جبهتي الضفة وغزة تتفرغ إسرائيل للقدس التي تعتبرها الحلقة الأخيرة في الصراع والهدف النهائي وتزداد شهية تهويدها مع استمرار زيادة التطرف في إسرائيل الذي وصل حد إيصال ممثل الفاشية الكاهانية إلى الكنيست ومرة في باب العامود ومرة في سلوان والآن في الشيخ جراح، وفي كل مرة تجد القدس رجالا يدافعون عنها بكل ما يملكون من قناعة الحق وإرادة الحقيقة التي لا تزيفها القوة ولا تعهدات لصوص التاريخ حين يتسللون على حين غفلة.
كانت القدس تكتب كلمتها وتهدي الفلسطيني خبراً وصورة تم توزيعها على العالم لمزيد من التحشيد وتعرية إسرائيل عندما يطبق جندي كل تدريباته العسكرية ضد رجل خاشع على سجادة صلاة، هذا ما يريده الفلسطيني فالقدس يدافع عنها أبطالها ويصنعون جولة من جولات تاريخها التي هزمت كل أعدائها، لكن السؤال الذي بات مطروحا حين تعلق الأمر بالشيح جراح وتسليم الفلسطينيين لقمة سائغة لقضاء إسرائيل المؤدلج والمسيس ..ماذا نتوقع من القضاء الإسرائيلي الذي تأسس كجزء من دولة إثنية كل وظيفته هو الحفاظ عليها وتعزيزها وأطماعها ؟ كيف يمكن في ظل هيمنة اليمين الديني والقومي أن يكون قرار القضاء مخالفاً لأسس دولة شكلت كل مؤسساتها وفقاً لتركيبتها الإثنية؟
فقد أعلن بن غوريون في بيان التأسيس قائلاً: «اليوم أقيمت دولة اليهود» وبالتالي تجند كل شيء فيها لخدمة اليهود فقط على حساب الحقوق التاريخية لشعب طرد للتو من وطنه وأرضه وممتلكاته التي تمت مصادرتها بالقانون الإسرائيلي وهو نفسه الذي يبت في بيوت القدس.
وفي كل مرة تثبت القدس أنها وحيدة إلا من رجالها وشعبها الفلسطيني الذي تحرك أو تجهز مستنفراً دون أن ينتظر العالم الحر الذي تواطأ منذ سبعة عقود ولا العرب الذين صمتوا على قرار ترامب. ولكن الأكثر صعوبة هو المؤسسة الفلسطينية التي باتت بلا حيلة سوى من المناشدة لعالم صمت لعقود وهو يرى كل هذه المجازر وفي ظل عدم وضع القدس كأولوية في تعزيز صمود الناس والصحة والتعليم والمؤسسات وشبه غياب عن الموازنة وقوى تتصارع على كل شيء لدرجة كادت تغيب قضية القدس في زحمة صراعها على السلطة لولا أن للقدس معجزة البقاء التي تصر على توقيع اسمها في كل صفحات سجل التاريخ وتكتبه بحبر الكرامة والشموخ المغمس بتراث الأنبياء.
فهل ستنطفئ أنوار مدينة أهدت للعالم كل هذا النور؟ تلك مشكلة إسرائيل في قراءة دروس التاريخ التي ترسب فيها كل مرة، وكل مرة يسجل رجال القدس نجاحهم بامتياز مع مرتبة الشرف ...!