مع دخول صواريخ المقاومة على خط انتفاضة القدس، اندلع الجدل فلسطينياً حول جدوى هذه الخطوة من عدمه ... أنصار إطلاق الصواريخ، ينطلقون من موقف تقليدي – تاريخي، يعظم الكفاح المسلح، وينطلق من منطق القانون الدولي بجواز اللجوء إلى مختلف أشكال المقاومة، لدحر الاحتلال ... معارضو هذه المقاربة، انطلقوا من الحاجة لتفادي «عسكرة الانتفاضة»، وحرف الأنظار عن القدس، ووجوب البناء على التعاطف الدولي مع القضية الفلسطينية.
من وجهة نظر كاتب هذه السطور، كانت المشاركة الأفضل والأنسب لغزة بقسطها في الدفاع عن القدس والانتصار لأهلها، إنما تتجلى في تفعيل «مسيرات العودة»، وبأوسع مشاركة شعبية ممكنة، تحتمل الاحتكاك الخشن مع الاحتلال، على السياج الحدودي، ولكن في مطلق الأحوال، لا يجوز لاختلاف التقدير حول هذه المسألة أن يطغى على المشهد الفلسطيني، أو أن يسيء إلى هذه الوحدة الرائعة التي تجلت في صفوف الفلسطينيين.
ثمة قوة جبارة يتكشف عنها دوماً، الاحتشاد الشعبي والنضال الجماهيري الكثيف ... لقد أسقطت شعوب عربية ديكتاتوريات متمكنة، ظننا لبعض الوقت، أنها «باقية أبداً»، وأنها ستتوارث الحكم جيلاً بعد جيل ... لم يشهروا السلاح، بل اكتفوا بسيناريو «ميدان التحرير» و»ساحة التغيير» و»شارع الحبيب بورقيبة».
لقد اكتسب كفاح المقدسيين، زخماً هائلاً في الأيام الأخيرة، وعادت فلسطين إلى قلب دائرة الأضواء السياسية والإعلامية، وسقطت نظرية نتنياهو القائلة بأن «القضية الفلسطينية» ليست سوى مجرد تفصيل، لن تحتاج المنطقة إلى حلها من أجل الوصول إلى السلام والتطبيع الإقليميين ... لقد أسقطت نظرية «تمزيق الشعب الفلسطيني» إلى نتف ومعازل، لا يربطها رابط، بعضها بالبعض الآخر ... لقد حلم إسرائيل بالجمع بين السلام والاحتلال معاً ... كل هذا سقط، وسقط دفعة واحدة، في الوقت الذي كانت فيه القضية الفلسطينية، تكسب بالنقاط على الدعاية الصهيونية السوداء، وأبواقها أو «رجع صداها»، في بعض دول التطبيع العربية.
استحقت هذه المكاسب، على جسامة التضحيات، إبقاء التركيز منصباً على القدس وانتفاضة شبابها وصباياها، الفلسطينيون في القدس، كسبوا «معركة الصورة»، الصور والفيديوهات، التي طافت أرجاء الكرة الأرضية، كان لها وقعاً سحرياً في استحداث الخلخلة في «الرأي العام السائد»، والتسبب باهتزاز «الصور النمطية» عن هذا الصراع ... ولا يتعين بحال، طمس هذه الصور، أو تشتيت النظر عنها.
ستنتهي جولة المواجهة بين غزة والاحتلال، ربما في غضون أيام، السيناريو بات معروفاً، سيتدخل الوسيط المصري بكثافة، وكلا الجانبين لا نيّة لديه بالتصعيد والانزلاق إلى مواجهة شاملة ... سنبدأ بإحصاء الخسائر، وسنكتشف أننا دفعنا القسط الأوفر منها، ومن دون نسبة أو تناسب على الإطلاق ... وقد نصل بعد أيام أو أسبوع، إلى تفاهمات جديدة للتهدئة ووقف النار ... النتيجة، أننا سنكون قد خسرنا النقاط التي سجلنها في المعركة على الرأي العام، في معركة الصورة والرواية.
الفلسطينيون هبّوا من مختلف المدن والبلدات نصرة للقدس، ولا مطرح لخط أخضر أو أصفر أو أحمر، والتضحيات جسيمة للغاية، والمعركة الساخنة يتعين أن تُدار بعقل بارد، فنحن أمام حرب طويلة الأجل، ولسنا بصدد معركة حسم، تنتهي بأيام أو أسابيع أو حتى أشهراً معدودات ... علينا أن نختار أشكال المقاومة التي يستطيع شعبنا أن يتحمل أكلافها لأطول وقت ممكن، معتمدين معياراً واحداً في خياراتنا واختياراتنا: معيار الصمود والبقاء والنفس الطويل، وسوف تتوفر في قادمات المواجهات والمعارك للجوء إلى مختلف أشكال الكفاح، بما فيها المسلح، ولكن دعوا انتفاضة القدس وأكنافها، تستكمل زخمها، وتضمن ديمومتها، وتستمر في تصاعدها.