اسرائيل بعد 73 عامًا من النكبة، وبعد أن تمكنت من هزيمة الأنظمة العربية وجيوشها في كل حروبها، الأولى عام 1948 حيث احتلت معظم فلسطين، والثانية عام 1967 عندما استكملت احتلال الباقي منها ، إلا أنها فشلت في احتلالها وكل حروبها تلك بتصفية إرادة الفلسطينيين و وعيهم الوطني وإصرارهم على التمسك بحقوقهم وصمودهم منذ الكرامة وبيروت والانتفاضتين وحروب اسرائيل العدوانية الأربعة على شعبنا في قطاع غزة، وحربها المفتوحة لتهويد القدس ونهب الأرض والثروات والموارد في كل أرجاء فلسطين.
خلاصة جوهرية يمكن أن نستخلصها من هذا الصراع الطويل، وهي أن الشعب الفلسطيني الذي لم يبخل يومًا بأرواح أبنائه ودمائهم وتقديم خيرتهم في مواجهة حروب العنصرية والتطهير العرقي ومحاولات تصفية القضية الفلسطينية، وهي أن وحدة الشعب وإرادة البقاء كانت دومًا السياج الذي يمكّنه من الصمود، وحيثما تجسدت معها وحدة وبَسالة القيادة يصنع الشعب والمقاومة المعجزات. وفقط عدم إنهاء الانقسام هو ما يساعد حكومة الاحتلال على تحويل الصمود الشعبي البطولي في الميدان لخساراتٍ سياسية استراتيجية خطيرة كما هو حال الانقسام الراهن ومعه غياب المرجعية السياسية والقيادة الميدانية الموحدة.
خضوع الأنظمة العربية وانقسام القيادات الفلسطينية، بالإضافة إلى النفاق الدولي وازدواجية معاييره في التعامل مع الصراع الفلسطيني الاسرائيلي، والانحياز الأمريكي الدائم والدعم غير المسبوق سيّما في عهد إدارة ترامب الصهيونية، كل ذلك شجّع اسرائيل حد وهم غطرسة القوة والاعتقاد بأن الطريق باتت ممهدة أمامها لاستكمال حرب النكبة ليس فقط بتهويد القدس ونهب باقي أراضي الضفة، بل وبالتطهير العرقي الذي لم تكن محاولات اقتلاع أهالي الشيخ جراح سوى بداية تنفيذ هذه الاستراتيجية الدفينة التي سرعان ما امتدت لهجمات عنصرية إرهابية تحت شعار الموت للعرب في مختلف المدن والبلدات الفلسطينية داخل الخط الأخضر، والتي لا يمكن تفسيرها سوى بمحاولات التطهير العرقي، هذا بالإضافة إلى ما سبقها من جرائم بشعة بحرق عائلة دوابشة، وحرق الشهيد محمد أبو خضير في القدس، وغيرها من جرائم حرق بيوت الفلسطينيين وعشرات الآلاف من شجر الزيتون وغيرها من الأشجار المثمرة ومصادر رزق الأهالي.
هذه الحرب المجنونة التي صممها نتانياهو ضد شعبنا بإطلاق العنان لإرهاب منظومته العسكرية وميليشيات مستوطنيه الذين باتوا يقررون مستقبل وطبيعة الصراع، كان إحدى نتائجها المباشرة الانزلاق نحو توسيع ساحة الصراع مع كل من هو فلسطيني على امتداد فلسطين التاريخية من اللدّ ويافا ومدن الجليل والمثلث والنقب، حتى رفح والقدس والأغوار، ومن البحر إلى النهر، لتعيد توحيد الإرادة والمصير الفلسطينيين في معركة الصمود والدفاع عن الحق في البقاء.
دلالات هذه الحرب أنها أطاحت بكل أسباب التباين وطرحت سؤال المستقبل على القيادات الفلسطينية المهيمنة على مشهد الانقسام، بأن هذا الصمود يضع الشعب والقضية الفلسطينية على مفترق طرق؛ وهو إما ترسيخ الوحدة والنهوض بإنجازات شعبنا في انتفاضته الشاملة التي أعادت ترميم الهوية الوطنية الجامعة وتوحيدها، وتعميق مأزق اسرائيل وعنصريتها المتهاوية نحو الفاشية، وهذا ما تتضح ملامحه عندما أعلنت حراكات شبابية و قيادات وطنية اعتبار دعوة لجنة المتابعة للإضراب العام داخل أراضي ال48 إلى اضراب عام لعموم فلسطين، هذا خيار يتبلور و ينهض ولو ببطء،وإما استمرار التخندق في براثن الفئوية والمصالح الشخصية على ضفتيّ الانقسام، وما قد يعنيه ذلك ليس فقط تبديد التضحيات التاريخية والراهنة، بل والمسّ بالمصير الوطني ربما نحو الانفصال. صحيح أن حماس كانت قد ارتكبت خطأً استراتيجيًا بانقلاب 2007، ولكن الصحيح أيضًا أن إحجام القيادة عن القيام بما يُمكِّن من استعادة وحدتنا الوطنية ومؤسساتنا الجامعة و تطوير دورها والنهوض بالطاقات الشعبية يُعتبر كارثة وطنية سيكون لها ما بعدها إن لم يتم تداركها اليوم قبل الغد، وكل ساعة تمر يكون قد فاتها القطار ، لان الشعب اختار طريقه و لن يتراجع، فتجربته الحية تقول أن الوحدة كانت دومًا سر الصمود، وفقط الفرقة والانقسام هما ما يحولان إنجازات الميدان لخسارات سياسية صافية تُطيح بإنجازات وتضحيات شعبنا.
إن إلغاء الانتخابات والتردد أو عدم الرغبة والاستعداد لتقديم بديل وطني جدّي، يضع حد للتفرد والهيمنة الانقسامية ويمكّن من تحمل المسؤولية الجماعية الكفيلة بإعادة إحياء الأمل للناس واستنهاض وتوحيد طاقتها، وكذلك عدم التعامل الملموس إزاء متطلبات صمود الناس في القدس والقطاع وسائر الأرض المحتلة، أعطت الفرصة لمواجهة العدوان الاسرائيلي دون استراتيجية عمل موحدة، وللأسف فقد عزّز هذا الفراغ إحجام القيادة عن تحمل المسؤولية في مواجهة العدوان الوحشي على شعبنا، حيث صمتت بطريقة غير مفهومة، فأضاعت حتى الآن فرصة ذهبية للتحلل من أطواق وقيود أوسلو والالتحام مع الشعب الموحد في ميدان المواجهة والصمود على امتداد فلسطين التاريخية وبما يعيد للقضية الفلسطينية مكانتها.
معطيات ما بعد الحرب، إذا استمر مثل هذا الموقف، لن تكون كما كانت عليه قبلها. فشهية اسرائيل الدموية ستتصاعد، واستمرار الرهان على فتات السياسة الدولية لم يعد ذو شأن مقنع بل مجرد اختباء خلف الوهم؛ فالعالم كله بما فيه أعداء شعبنا ومن يساندهم لا يحترم أو يحسب حسابًا سوى للأقوياء، ونحن كشعب أعزل فإن قوتنا تكمن أساسًا في مدى التحام قيادة شعبنا الوطنية مع ضمير وخيارات شعبها المتمسك بالوحدة والصمود.
هذا هو الدرس الماثل أمامنا من خبرة الصراع الممتدة منذ النكبة، وما زال هناك فرصة لالتقاطه دون مناورات فئوية صغيرة من أيّ طرف كان، أو استمرار الخضوع لشروط اسرائيل العدوانية، سيما ما كان يسمى بشروط الرباعية. الميدان بات مفتوحًا لوحدة صلبة بعيدًا عن أيّة شروط مسبقة، وبما يُمكِّن من إعادة بناء المنظمة بالانضمام الفوري لحماس والجهاد والقوى الوطنية والمجتمعية الناهضة لقيادتها، وبلورة سبل كفيلة لترسيخ وحدة شعبنا وتمثيله الموحد على أرض فلسطين التاريخية وفي كافة أماكن تواجده، وتطوير وحدة هويته الجامعة ودوره في معركة العودة وتقرير مصير كل الشعب الفلسطيني. وكذلك الاتفاق الفوري على تشكيل حكومة إنقاذ وطنية بعيدة عن قيود والتزامات أوسلو مهمتها الأساسية تعزيز صمود شعبنا في القدس أولًا وإعادة بناء ما دمرته الحروب الهمجية على القطاع، وإطلاق يد شعبنا للدفاع عن أرضه وحقه في البقاء عليها.
ليس أمام القيادة الفلسطينية سوى التقاط الفرصة دون تردد وتبنّي مطالب الشعب برمته لوقف العدوان والاجتياحات والحصار والتطهير العرقي في القدس وغيرها. وأن تقود بإرادة الكل الفلسطيني مفاوضات وقف إطلاق النار، وبما يمهد لاستعادة الطابع الائتلافي والجبهوي للمؤسسات الوطنية والقرار الوطني الموحد، والانحياز لشعبها باعتماد استراتيجية كفيلة بصون حقوق شعبنا. من دون ذلك لن يرحم التاريخ أيًّا منّا، وخاصة من يغامر بوحدة الشعب أو يفرط بحقوقه ويمسّ مصيره الوطني الموحد. شعب فلسطين تعلم الدرس ولن يسمح بتمرير نكبة ثانية. وسينهض في معمعان الصمود والنضال بقيادة شابة موحدة وشجاعة وقادرة على صون وحماية إنجازاته ونضالاته لتقود شعبها نحو مستقبل واعد بالحرية والكرامة، وبما يستحقه أطفال شعبنا من فرح وحياة .
يقتلون الحياة في غزة..
يغتالون طفولتها..
و يدمرون عماراتها و شوارعها..
يبيدون أُسراً بأكملها ويحرقون..لعب أطفالها،
و لكنهم و رغم كل هذا الموت..
لن ينالوا من إرادة الحياة عند أهلنا فيها.