من الممكن أن يعد ما أكتبه في هذا الموضع مقالاً، وقد يكون رجاء، وقد يكون بنسبة أعلى عند تصنيفه يومية من يوميات ما بعد الحرب على غزة، حيث قررت بعد البقاء في البيت نحو أسبوعين، ان اخرج مع عائلتي إلى شاطئ بحر غزة.
ضع نقطة وانتظر لتسمع ما هو شاطئ بحر غزة، أقول لك وباختصار شديد انه متنفس فقراء غزة، الجميع يهرع إليه، فهو يكاد يكون مكان تنزه مجاني، لا يكلفك شيئا لأن أي عائلة سوف تحمل معها أي شيء من البيت وسوف تجتمع حوله على الشاطئ كأفخم وجبة، فالشاطئ وهواؤه وجوّه ولون بحره والصوت الذي يهدر في أذنيك، كل ذلك وأشياء كثيرة تكمل اللوحة وتجبرك على أن تلتهم ما يوضع أمامك بشهية مفتوحة، ولذلك لا تتردد ربة أي بيت أن تحمل عدداً مضاعفاً من أرغفة الخبز المنزلي، الخبز الذي أعدته من الدقيق الذي تقوم بتوزيعه وكالة الغوث الدولية "الأونروا".
هكذا تجد نفسك أمام البحر مباشرة، والزحام الشديد قد يضيق اللوحة قليلاً، ولكنك تلتمس العذر لهؤلاء الأشقياء والأبرياء، المثقلين بالحزن والألم والذين خرجوا من دائرة الموت التي دارت قبل أيام، وترى وجومهم وضحكاتهم التي لا تخرج من القلب، بل من حافة الروح حيث كان الموت أقرب لأرواحهم من رمال الشاطئ الصفراء والتي قد يدوسونها حفاة، ويستمتعون بملمسها.
هكذا وجدت نفسي مع أولادي على الشاطئ، طاولة مستديرة من البلاستيك حولها عدة كراس مثلها وان تهشمت مساند معظمها، ولكنك لا تعترض ولا تعلق فهذا هو المتوفر، وقد تلمح الحرج على وجه الشاب المسؤول عن تأجير هذه المساحة الضيقة التي تعلن للجميع انها مساحته الخاصة، فتجلس مع أهل بيتك ولا أحد يتدخل بك، وان كان هناك بعض الصبية الصغار الذين ينظرون نحو ما قمت بوضعه فوق الطاولة، وفوق الطاولة بالتأكيد، هناك علبة صغيرة بها بضع كعكات متبقية من كعك العيد مع حافظة للشاي، وكنت تحلم أن تحتفل بالعيد وكعكه بطريقة أخرى، ولكنك اليوم تحمل بقاياه التي لم تتهشم وأنت تنقلها من مكان إلى مكان في البيت، حيث كنت تنتقل أنت نفسك من مكان إلى مكان حسب اتجاه القصف المحيط ببيتك.
الآن أنت تجلس على الشاطئ ملاذك الأوحد وتنظر نحو السماء مرة، ونحو البحر المتلاطم الأمواج مرة ثانية، ولا يثير فضولك الناس المتكدسون لأنك تعرف ما لديهم، فهو ما لديك، فأنت قد حاولت وجاهدت لتغير من مزاجك، وبدلت ملابس البيت بصعوبة، وحاولت أن تحسن من هندامك بصعوبة، وتعففت عن أي زينة مبالغة احتراما لجرح الناس، وتذكرت قول أمك بالطبع "الناس مجروحة ياما"، ولذلك فأنت تبقى هكذا مثلما كنت في البيت، واجماً وبلا تغيير سوى تغيير ملابس البيت وانتعال الحذاء.
تحمل معك قلبك الراجف وأعصابك المتهالكة التي لن تحتمل صوت فرقعة بالون لطفل يلهو، ولن تحتمل فرقعة إطار سيارة مسرعة على الرصيف القريب اللاهب.
هكذا أنت ترتجف وأنت تجلس وترى الحفر على الشاطئ بسبب القذائف التي ألقيت من البوارج البحرية خلال أيام الحرب، وترى قوارب الصيادين المهشمة والمدمرة وتشعر بالأسى، وتنظر جيدا وتشعر بأن هذا البحر الجبار قد مرت به أيام عصيبة مثلك، وها هو يمارس عمله المعتاد منذ الأزل ولن يتردد عن ابتلاع شاب أو طفل لا يجيد السباحة بين موجه، ولذلك تقنع نفسك أنك يجب أن تمارس عملك وتمضي في حياتك حتى عندما كنت تسير في الشارع وتركل علبة فارغة نحو الإسفلت، تجد نفسك اليوم بحاجة لأن تفعل ذلك، فالحياة تستمر وشبح الحرب لم يولِّ وأنت تدعو الله أن يولي، أن يبتعد هذا الشبح لكي تشعر ببعض الأمان، تباً لهذه الكلمة العصية، تكتبها من أربعة حروف ولكن الشعور بها لا يقترب ولا يحدث بسهولة.... ولكنك تحتاج إليها، كل غزة تحتاج إليها.