حتى منتصف ليلة الغد، ينتظر الإسرائيليون باهتمام بالغ، ومعهم الفلسطينيون وكل المعنيين بالسياسة الخارجية الإسرائيلية في المنطقة، مآل جهد المكلف بتشكيل الحكومة يائير لابيد، بعد مضي الأسابيع الأربعة، وهي المهلة الممنوحة للمكلف بتشكيل الحكومة عادة، وإن كان سينجح أخيراً، في وضع حد لمارثون التشكيل الحكومي الإسرائيلي، الذي يعتبر ظاهرة فريدة من نوعها في العالم، حيث أجرى الإسرائيليون منذ نيسان 2019 أربع جولات انتخابية، لم تسفر كلها عن استقرار حكومي، حتى اللحظة.
والحقيقة أن نجاح لابيد في تشكيل حكومة التغيير، كما كان أعلن منذ قرار الكنيست بالذهاب لانتخابات آذار الماضي، يعني وضع حد لعهد رئيس حكومة سار على طريق الاستبداد الشرقي، وسجل أطول فترة لرئيس حكومة إسرائيلي في الحكم، منذ عام 1948، بنحو خمسة عشر عاما، منها اثنا عشر عاماً متصلة، منذ عام 2009 وحتى الآن، إضافة لثلاث سنوات ما بين عامي 1996_1999. وهذا بحد ذاته انجاز مهم جدا، خاصة مع كونه شعاراً ناظماً لكل خصوم نتنياهو خلال الجولات الأربع الماضية، وبعد أن وجهت تهم الفساد رسميا لرئيس الحكومة.
نجاح لابيد بعد ذلك يثير عددا من المفارقات الغريبة، على السياسة في كل الدول، فهو المكلف بتشكيل الحكومة، لن يكون رئيسها، على الأقل في الفترة الأولى، حتى أيلول من العام 2013، حيث سيتولى رئاسة الحكومة، زعيم حزب «يمينا» نفتالي بينيت، والذي يمتلك حزبه سبعة مقاعد في الكنيست فقط، ومع اتفاق معسكر خصوم نتنياهو بزعامة لابيد، مع بينيت، فإن الاتفاق غير كاف لضمان الأغلبية البرلمانية، حيث الطرفان _أي معسكر نتنياهو ومعسكر خصومه_ كانا وما زالا بحاجة إلى شبكة أمان من العرب، إن كانوا من القائمة المشتركة في حالة لابيد، أو العربية الموحدة في حالة نتنياهو.
المهم أنه بالنظر إلى أن من أوصوا بعد الإعلان الرسمي لنتائج انتخابات الكنيست الرابع والعشرين، يلاحظ أن معسكر نتنياهو ضم 52 نائباً صوتوا له، في حين صوت للابيد 45 هم نواب معسكره، مع خمسة من نواب المشتركة ونواب «أمل جديد» الستة، في حين كان للعرب 10 ( 6 مشتركة +4 موحدة )، مع 7 مقاعد ليمينا، 6 لـ «أمل جديد»، فإن رئيس الدولة كلف أولا نتنياهو، في حين أوصى نواب يمينا لبينيت، ولم يوص نواب الموحدة لأحد. لذا فقد كلف نتنياهو لأنه زعيم أكبر كتلة برلمانية، نظرا لأن أحدا من الثلاثة لم يوص له بأغلبية النواب.
كان بالطبع المفاجئ هو أن يلتزم جدعون ساعر بموقفه الرافض للمشاركة في حكومة برئاسة نتنياهو، أياً يكن الحال، وتوصيته للابيد، في حين بقي بينيت بين الطرفين، لذا فقد انهالت عليه العروض السخية من كليهما، وبعد أن فشل نتنياهو في تشكيل الحكومة، جر البلاد لمواجهة دامية مع الجانب الفلسطيني، في محاولة واضحة، تهدف لتحقيق هدفين معاً، أحدهما التشويش على مباحثات فيينا حول الملف النووي الإيراني، وثانيهما، شلّ قدرة لابيد على تشكيل حكومة التغيير، ليجبر إسرائيل مجدداً على أن تختار بينه وبين الانتخابات الخامسة.
وقد نجح نتنياهو جزئياً في ذلك، فخلال أول أسبوعين من مدة تكليف لابيد، لم يفعل الرجل شيئاً، بل إن بينيت تعهد خلالها بطي صفحة حكومة «اليسار»، ما ساعد في زيادة الضغط على نتنياهو ليوقف الحرب، بضغط أميركي، قبل أن تنقضي مدة لابيد، وكان نتنياهو يفضل أن تستمر الحرب أسبوعين آخرين لتحقيق ذلك، من هنا كانت ردة فعل نتنياهو عنيفة على استجابة بينيت للاتصالات الائتلافية مع لابيد، ومن ثم تقديمه لمقترح أخير بتشكيل حكومة دوارة بتبادل ثلاثي بينه وبينيت وساعر، قدم فيه سخاء كبيراً، حين اقترح أن يتولى ساعر أولاً، ومن ثم بينيت، وأخيراً هو، لكن خدعة نتنياهو لم تنطل على تلميذه اليميني، فقد كان واضحاً، أن نتنياهو يريد أن يفوت الفرصة على لابيد، وإحالة الأمر للكنيست، ومن ثم التنصل، لفرض انتخابات خامسة، حيث كان سيظهر التشدد والتراجع حينها.
مع اتفاق لابيد - بينيت، والذي يباركه بالطبع ساعر، تبقى هناك مشكلة حقيقية، تكمن في أن مجموع القاعدة البرلمانية لكل أحزاب هذا الائتلاف لا تحقق الأغلبية السحرية، وهي 61 نائباً، فمجموع معسكر خصوم نتنياهو، أي ييش عتيد، كاحول لافان، العمل، إسرائيل بيتنا، وميرتس، هو 45 مع نواب يمينا وأمل جديد وهو 13 يصبح المجموع 58 نائباً، وهذا يعني بأن حكومة التغيير، تحتاج إلى نواب ينشقون من الليكود أو حلفائه، أو الاعتماد على شبكة أمان من القائمة المشتركة.
في حقيقة الأمر، فإن متابعات الانتخابات والتكليف والاتصالات الائتلافية بين زعماء الأحزاب الإسرائيلية، خاصة اليمينية منها، إن كان ليكود نتنياهو أو يمينا بينيت، أظهرت مدى الانتهازية السياسية، وانعدام الأخلاق الذي تتسم به هذه الأحزاب وزعماؤها، فلم يلتزم نتنياهو أبدا باتفاق، ولا حتى مع بيني غانتس، شريكه في حكومة التناوب بعد انتخابات الكنيست الثالث والعشرين التي جرت في نيسان العام 2020، والذي ربما كان سببا لعدم ثقة بينيت بنتنياهو وعدم استجابته هو وساعر لمقترح الحكومة الدوارة بالتبادل بين الرجال الثلاثة.
وحيث أن إسرائيل كانت بين خياري نتنياهو أو بينيت، بين يميني وآخر أكثر يمينية، بين مخادع وانتهازي، لا يلتزمان بمواقف أو اتفاقيات، فإن هذا يكشف السبب الحقيقي لفشل عملية السلام بين إسرائيل وفلسطين، فمن ينظر بالريبة للآخر الإسرائيلي، حيث حرض نتنياهو، مثل ترامب، ضد بينيت لأنه ذاهب لتشكيل حكومة «يسار»، كيف يمكنه أن ينجح في انجاز سلام تاريخي مع جار فلسطيني؟!، وهذا يعني بوضوح بأن إسرائيل ما زالت بحاجة إلى الكثير من التغيير الداخلي، ليس حتى تكون دولة لكل مواطنيها، دولة تلفظ العنصرية، بل حتى تكون دولة قادرة على التأقلم والتعايش مع المحيط الشرق أوسطي، والذي يبدأ بالتعايش مع الجار الفلسطيني، لكن مع ذلك فإن إلقاء نتنياهو لقارعة الطريق، يفتح الباب لتغيير ضروري وبدرجة كبيرة في المجتمع الإسرائيلي، كما حدث مع المجتمع الأميركي، بعد إسقاط حكم الشعبويين الذين ينظرون بدونية لمن هو من غير البشرة البيضاء، وبعد إسقاط رئيس حكومة كانت لليهود فقط، على طريق إسقاط حكم اليمين الاحتلالي.