مع أن هزيمة الخامس من حزيران1967 تكبرني بخمس سنوات، إلا أني ما زلت أراها طازجة لم يبرد طلق مخاضها، ولم ينشف سيل دمها عن عقبيها، ولم تنكمش مشيمتها، ولم يهدأ نفث زفيرها وشهيقها الملتاع، طازجة أحسها كجرح مرشوش بالملح والزجاج المبروش، وربما شبنا قبل أواننا بكثير، وربما ولدنا شيوخا بعكازات عوجاء، وربما ذبلت أفراحنا الخجلى تحت وطأتها، واحدودبت قاماتنا تحت أثقالها وأثافيها، لكنها ظلت طازجة وستظل.
وإذا كانت كل مصيبة تبدأ كبيرة وتضمحل شيئاً فشيئاً حتى تتلاشى وتندمل، إلا هزيمة حزيران فقد ولدت كبيرة، وازدادت ثقلاً مع كل دقيقة علقم تمر في ميناء ساعاتنا، وكما قلنا ستزول سحابة الشوك هذه؛ تبرعمت حولها الهزائم، وخرجت من جنباتها فسائل الانكسارات، وكأنه كلما دقَّ الكوز بجرة حزيراننا؛ امتلأت وجوهنا دموعاً، وأجهشنا بالوجع حدَّ التراقي؛ فعلَّ الوجع يحزّ فينا جلداً، وعلَّ الألم يهزُّ فينا شَعراً بات شوكاً.
ولأن العرب فنانون في رشم الموت بالسكر، وفنانون بذر الرماد في العيون، وفنانون في تدبيج التسميات والألقاب، فقد سموا هزيمة حزيران بالنكسة، في إشارة أن هذه الحرب العابرة، ما هي إلا كبوة جواد، ما يلبث أن ينهض يكمل مسيرته المجيدة نحو السؤدد، وهذا ما ضاعف من هزائمنا، فإذا كان مواجهة الهزيمة تتطلب أن تعترف بها أولاً، كما أشار ميكافلي بكتاب الأمير، فإن أمة العرب ضحكت على ذقن حالها، فدلعت هزيمتها بالنكسة، كما سمت سابقتها بالنكبة: مصيبتنا أننا لا نسمي الأشياء بأسمائها.
اليابان خسرت حربها، لكنها نهضت من كبوتها ونكبتها قوية مزدهرة، وكذلكم ألمانيا وغيرها من شعوب العالم، إلا نحن فهزيمتنا لا تتلاشى إلا لتكبر من جهة أخرى، ولا تذبل إلا لتتناسل إلى هزائم مبثوثة في كل الجنبات: فكم نكسة مرت بنا عقب حزيران، من اجتياح لبنان حتى جرح العراق الأخير وما تلاها؟!.
وبعيداً عن قصور القفزات الهزيلة لنيل معرشات العنب، فسيبقى حصرم هذا الشهر (الحصرم هو العنب قبل نضجه) حصرماً ما ظلت الدوالي، لن تنضجه كل شموس العالم حتى لو ساطته بلفح حرها، وستظل أسنان أجيالنا القادمة (هذا إذا نبتت لهم أسنان) ستظل تضرس بخطيئة الآباء وملح البارود المبلول.
وما زلت خائفاً إن نضج حصرمنا ذات صدفة أن نخمّره لسكرة طويلة، تدخلنا في سبات جديد بعيد.