ما حدث هو ان اسرائيل استطاعت وخلال هذه المدة تفكيك المرجعيات الدولية والتملص من القرارت الدولية المتعلقة بالصراع الفلسطيني- الاسرائيلي، كما استطاعت ان تغير ديموغرافيا الضفة المحتلة بالذات من خلال تكريس الاستيطان وفرضه فرضا على اية تسوية ممكنة، وتمكنت اسرائيل من عقد معاهدات سلام مع اطراف عربية كثيرة، واقامت علاقات سرية مع اطراف عربية اخرى، وبالتالي استطاعت إسرائيل ان تضعف الجبهة العربية حيث لم يعد باستطاعتها مساندة الحركة الوطنية الفلسطينية فضلا عن حصارها او الاشتباك معها او حتى نزع الشرعية عنها، واستطاعت اسرائيل خلال تلك المدة ان تربط الحياة اليومية للشعب الفلسطيني باقتصادها بحيث حولت معظم الفلسطينيين الى عمال او ذوي اشغال يدوية غير قادرة على المنافسة او التأثير، فضلا عن مصادرة الارض والثروات، فلم يعد الفلسطيني يملك ما يستطيع به ان يقيم مجتمعاً صحياً او معافى، ولم تكتف اسرائيل بذلك، بل لاحقت الثورة الفلسطينية والتجمعات الفلسطينية في كل اماكن تواجدها بالقتل والتشريد والنفي لعدة مرات، واستخدمت اسرائيل السياسة الاستعمارية المعروفة طيلة الوقت التي تسمى العصا والجزرة، بحيث كانت فترات استخدام العصا اكثر واطول وأشد. عملت اسرائيل طيلة المدة المشار اليها الى اضعاف النخبة الفلسطينية وضرب مؤسسات التعليم والتنمية الزراعية وربطتها بما يسمى الادارة المدنية، اي ادارة الاحتلال بحيث تحول احتلال الاراضي الفلسطينية الى مشروع مربح جدا، وقد حاولت اسرائيل الالتفاف على التمثيل الشرعي للشعب الفلسطيني من خلال الاعتماد على القوى التقليدية او قوى اخرى عميلة كما شجعت التنافس بين الفصائل لتضرب بعضها بعضا، ولكن ذلك كله انهار مع الانتفاضة الكبرى سنة ١٩٨٧، الامر الذي فتح الباب امام التسوية السياسية التي لها اسباب اخرى اقليمية ودولية. ومنذ تسوية ١٩٩٤ حتى يومنا هذا، فقد عملت اسرائيل على اضعاف السلطة الوطنية وارهاقها بالالتزامات والاشتراطات والتهديدات، كما عمدت الى تشجيع الانقسام الفلسطيني- الفلسطيني لضرب وحدة التمثيل وخلق مرجعيات متعددة، ثم جوفت وافرغت اتفاق اوسلو من اهدافه ومن مضمونه الاساسي الا وهو انهاء الصراع التاريخي بإقامة دولة فلسطينية ولكن اسرائيل استخدمت الاتفاق لضرب الحركة الوطنية الفلسطينية وتطويقها وتطويعها من جهة والى تغيير بنية وديموغرافية وجغرافية الضفة الغربية بالذات من جهة اخرى. ومنذ العام ١٩٩٤ وحتى يومنا هذا، فان اسرائيل تعامل السلطة الوطنية كدولة عندما يكون ذلك في صالح اسرائيل، وتعاملها باعتبارها اجيراً إذا كان ذلك في صالحها، واوهمت العالم ان هناك سلام رغم ان حقيقة الوضع تقول ان الاحتلال الاسرائيلي تغول وتوحش بعد اتفاق اوسلو لأسباب كثيرة منها ان المجتمع الاسرائيلي انتقل الى اليمين القومي والديني كردة فعل متعددة الاسباب ايضا. ومنذ العام ٢٠٠٦ وهو عام الانقسام الفلسطيني فان الجبهة الجديدة التي لم تكن اسرائيل تتوقعها اعادت كل شيء الى مربعه الاول.
منذ العام ١٩٦٧ وحتى يومنا هذا، تغير الاسرائيلي المحتل نحو مزيد من التطرف والتغول، فقد زاد خوفه وتوجسه، إذ انكشفت عوراته ونقاط ضعفه، كما تغير العالم ايضا بحيث لم يعد تأييد اسرائيل ودعمها يجري بشكل اوتوماتيكي كما كان في السابق، كما تغير الفلسطيني ايضا، فلم يعد الضحية الوادعة او الشاكرة او الطيبة او الطيّعة.
منذ العام ١٩٦٧، وبدلا عن الحديث عن حل اقليمي تتخلى فيه اسرائيل عن الاراضي او عن اراضٍ، فان الكلام الان يدور على الارض الكاملة. لقد فشل الاحتلال في شطبنا او اخضاعنا او اقناعنا رغم كل ما فعله او يفعله او سيفعله. المحتل وبعد ٧٤ سنة من اقامة دولته ما يزال يواجه ذات التحدي وذات السؤال. أكثر من ذلك، فإن الاحتلال كفكرة فاسدة ومخزية لا تصيب من يقع عليه الاحتلال بالأمراض فقط، بل ترتد على من يمارس فعل الاحتلال ايضا. الاحتلال مرض استثنائي تماماً والشفاء منه مسألة وقت ليس إلا.