كان يمكن للأزمة الليبية أن تأخذ منحى أقل عنفاً وأقصر مدى، لولا حروب المحاور والعواصم المحتدمة على الأرض الليبية، والتي بلغت ذروة جديدة، مع قيام الجنرال المتقاعد خليفة حفتر، بشن هجمات عسكرية منظمة في بنغازي وطرابلس، وصولاً إلى اقتحام المؤتمر الوطني واعتقال رئيسه وستة من أعضائه، وإعلانه إطاراً غير شرعي، مع كل ما انبثق عنه من قوانين ومؤسسات وقرارات.
لا ندري كيف بمقدور ضابط متقاعد، أن يمتلك كل هذه “الدالّة” على قوات نظامية بهذا الحجم والاتساع، وأن يمتد نفوذه إلى سلاح الجو ... لكنها ليبيا، بلد المفاجآت، منذ القذافي وحتى يومنا هذا ... ليبيا الغارقة في صراعات القوى السياسية من علمانية وإسلامية، وجيوش محتربة من المليشيات والعشائر ... ليبيا التي تركها القذاف وأنجاله ومساعدوهم، خراباً صفصفا.
على أية حال، لا يمكن النظر لحركة حفتر، أو بالأحرى انقلابه، إلا بوصفها تعبيراً عن حروب الوكالة التي تدور طاحنة بين المحاور على أكثر من ساحة عربية ... بين معسكر/ محور، يدعم الإخوان المسلمين ويجد تأييداً من دولة خليجية وأخرى إقليمية وازنة، وآخر جعل من الإخوان، عدوه الرئيس، حتى أنه بات ينظر للعالم من زاوية: من هم مع الإخوان ومن هم ضدهم، والمؤكد أن كل من يدعم الإخوان ولا يجرمهم، هو عدو لهذا المحور، وكل من يناصبهم العداء، هو مشروع صديق على أقل تقدير، أما عن الدول القائدة لهذا المحور/ المعسكر، فلم تعد خافية على أحد.
لا شك أن إخوان ليبيا، يتمتعون بنفوذ وازن في مؤسسات “العهد الليبي الجديد”، أو في ليبيا ما بعد القذافي، وبخلاف العلمانيين، فإن إخوان ليبيا، لديهم قوى شبه عسكرية وميليشاوية أكثر نفوذا وتسليحاً، وقد جعلوا من ليبيا ملاذاً شبه آمن، ولا نقول آمناً – لا مكان آمن في ليبيا - لإخوان مصر وغيرهم، وهذا أمر أقلق دول المحور المذكور، الذي يحظى بنفوذ قوي في ليبيا، ولديه من الأدوات والمليشيات، بل والحضور المباشر، ما يجعل منه، لاعباً مباشراً ووازناً في الأزمة، مستنداً في كل ما يفعل، إلى اقتدار مالي هائل، أكسبه دوراً إقليمياً ودولياً، لم يكن يحلم به يوما.
حفتر، وعلى طريقة جميع الانقلابيين، أصبغ على انقلابه، صفة شرعية بامتياز، ونزع هذه الصفة عن كل من وما في ليبيا من مؤسسات، باستثناء الأمن والجيش الناشئين ... وهو أصدر البيان رقم واحد، وأتبعه باعتقالات واشتباكات ... حل المؤتمر المنتخب، الشرعي برغم انتهاء مدته الدستورية، طالما أنه الإطار الوحيد الذي ما زال يجمع الليبيين على مائدة واحدة ... وشرع في إعداد دستور جديد للبلاد، على مقاس انقلابه وبما يخدم مراميه ... والأهم من كل هذا وذاك وتلك، أنه خاطب “غريزة” المجتمع الدولي المتوجس خيفة من الإسلاميين، وتحديداً التيارات الجهادية منهم، فنسب إلى نفسه “رسالة” محاربة الإرهاب، وأحسب أنه سيسعى لكسب الشرعية والاعتراف والدعم، عبر هذه البوابة.
الحركة السريعة التي قام بها حفتر، والتقدم الهائل الذي حققه في غضون أقل من أربع وعشرين ساعة، يشّفُ عن حجم الدعم والتغطية اللذين يحظى بهما الرجل ... مثلما يتكشف عن هشاشة مختلف الأطر السياسية والمدنية والعسكرية والأمنية في ليبيا ما بعد القذافي ... لكن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح، هو: هل تحظى حركة حفتر بأي دعم جدي من قبل المجتمع الدولي، إلى جانب الدعم الذي يحظى به من قبل حفنة من الدول العربية المعروفة تماماً؟
الغرب لم يضع حتى الآن، توقيعه على السياسات والبلاغات التي تصدر عن عواصم عربية وتستهدف حظر الإخوان وشيطنتهم ووصفهم بالإرهاب ... ولا ندري ما إذا كان أعطى “ضوءً أخضر” لحفتر وداعميه، للقيام بهذه الحركة الانقلابية أم لا؟ ... كما أننا لا ندري إن كان لانقلاب حفتر أن يحسم أمر السلطة والقيادة لصالحه، أم أننا سنكون أمام محاولة فاشلة جديدة، تضاف إلى سلسلة لا تنتهي من الانقلابات “الكرتونية”.