هي طبيعة وفطرة إنسانية واجتماعية أن نعشق البدايات لأنها تحمل من الإثارة والتشويق والتجديد ما يستحق ان نعيشه أو ما نريد ان نعيشه، وبالتالي كان من الطبيعي ان ترافق مظاهر الفرح والتفاؤل الحكومة الجديدة، إلا ان الحلبة السياسية والحزبية الإسرائيلية أصرت مرة أخرى على كسر القواعد والاعراف، وعلى جعل بداية عهد الحكومة الجديدة مخالفة للتوقعات والتمنيات لأسباب عديدة ومتنوعة، فلم يكن الأسبوع الأول من حياة حكومة التغيير برئاسة نفتالي بينيت، مشابهاً او حتى قريباً مما شهدته حكومات سابقة منذ إقامة الدولة وحتى اليوم ولم يكن اسبوعاً عادياً بل ابعد ما يكون عن ذلك فهي لم تحظ «بمئة يوم من التسامح والرحمة» ولا حتى بمئة ساعة، لتجد نفسها بمركباتها المتناقضة والمختلفة كذلك الذي القوه في اليم مربوطاً وقالوا اياك ان تبتل بالماء.. وأنى له ذلك.
وعلى وزن القول الشهير أن لا شيء يوحد الشعب حول قائدهم كالعدو المشترك اتحد اليمين والليكود والمتدينون المتزمتون وراء «قائدهم « بنيامين نتنياهو وصاغوا قواعد جديدة للعبة السياسية والحزبية يمكن اختصارها في تحويل الخصم السياسي الى عدو مبين وتحريم الاعتراف بشرعيته وسلطته حتى لو كانت ، وهي كذلك فعلاً ، قد حصلت قانونياً وشرعياً وبرلمانياً وشعبياً وعبر صناديق الانتخابات ، في تحريف تام لقول جان جاك روسو أن رصيد الديمقراطية الحقيقي ليس في صناديق الانتخابات فحسب, بل في وعي الناس، وهو القول الذي أراد به روسو التأكيد على ان الديمقراطية هي ممارسة يومية ووعي مترسخ في عقول واذهان الشعوب ووعيها تجسده تصرفاتها العملية وليس العملية الانتخابية فحسب، فهم لم يقبلوا حتى نتائج صناديق الاقتراع لأنها لم تكن مطابقة لمواقفهم واهوائهم، حتى انهم اعتبروا أي حكومة لا تشملهم» حكومة غير ديمقراطية « بل « خداع للشعب والتفاف على ما يريد» وهكذا خلقوا ديمقراطية – دكتاتورية جديدة وغريبة.
سرعان ما أدركت حكومة التعيير كما يسميها مؤيدوها ان السياسة ليست لعبة النوايا الحسنة أو المبادئ السامية وأن كلام الاتفاقيات الائتلافية يمحوه اختبار الواقع وأن التوصل فعلاً الى حلول وسط أصعب بكثير من الإعلان عن كونها ضرورة او شراُ لا بد منه، وأنه ليس بالضرورة أن ينتصر صاحب المبدأ، بل إنها أشبه بلعبة الشطرنج يتدخّل فيها عامل الذكاء والاستعداد والإلمام الجيد بقواعد اللعبة وتحين الفرص واغتنامها دون شفقة ودون عواطف، لتكون قضية تمديد سريان قانون المواطنة باسمه القانوني الجاف او قانون منع لم الشمل باسمه وجوهره الحقيقي خير اثبات على ذلك يؤكدها تصريح أعضاء المعارضة الحالية « انهم ليسوا هنا لمساعدة الائتلاف بل لإسقاطه « حتى لو كان الثمن قانون مؤقت مددته حكومات نتنياهو منذ 12 سنة مؤكدة انه يضمن يهودية اسرائيل ويمنع « تدفق» عشرات آلاف الفلسطينيات والفلسطينيين عليها طالبين هويتها الزرقاء ومواطنتها، في تكريس للنظرية البعيدة عن الديمقراطية التي تعتمد القائد فوق الدولة ومصلحة الحزب الحالية فوق المصلحة العامة التي طالما تشدق بها، والتي تقول انه بغية كسب النصر النهائي يجب على الحزب أن يوجِدَّ قيادة علياً حكيمة بعيدة النظر ورجالاً تسيرهم العاطفة ويخضعون لهذه القيادة خضوعاً أعمى، فالسريّة التي تضم مئتي رجل كلهم أذكياء وأكفّاء هي أصعب قيادة من سرية تضم مئة وتسعين رجلاً عادياً وعشرة رجال أذكياء يمسكون زمام القيادة، بينما ينفذ الاخرون قراراتهم دون نقاش او تفكير او أقل تقدير، علماً أن قانون «منع لم الشمل» يضع امام الائتلاف الحالي مصاعب غير متوقعة أولها انه يجب ان يتم بحثه امام لجنة الداخلية البرلمانية برئاسة النائب منصور عباس الذي يعارض القانون ما قد يمكن تخطيه بنقل القانون للنقاش امام لجنة الخارجية والامن وثانيها ان اقراره في البرلمان قد يبدو غير ممكن نظراً لمعارضة بعض أعضاء الائتلاف وغير مضمون نظراً لموقف اليمين الذي قد يصوت ضده من باب إحراج بينيت وزملائه وإظهار ضعف تحالف التغيير.
أسئلة كثيرة تدور وتُطْرَح حول ما تشهده إسرائيل اليوم وهي التي شهدت استبدال حكومات 13 مرة منذ اقامتها، رفعت معظمها على رايتها شعار التغيير والتبديل والمساواة، ليتضح ان معظمها فشلت في تحقيق التغيير الذي صبت او تصبو اليه جماهير مؤيديها فهكذا كانت حكومة مناحيم بيغن الاولى التي ارادت عام 1977 تحقيق المساواة والعدالة والحفاظ على أرض إسرائيل كاملة وتعزيز مكانة اليهود الشرقيين لتأتي الحقيقة عكس ذلك فانسحبت من سيناء كلها وفككت المستوطنات التي أقامها حزب «العمل» وقبلت بحكم ذاتي للفلسطينيين ، وحاولت تحسين أحوال اليهود الشرقيين فباشرت بمشروع ترميم الأحياء الذي تغنت به ، لتأتي حكومات الليكود التالية يصاحبها إبقاء للحال كما هو بل ربما استغلال لضائقة اليهود الشرقيين ومشاعرهم او شعورهم بالظلم والتمييز رافعة انتخابية للحصول على اصواتهم، حتى اليوم، وهكذا كانت حكومة اهود براك عام 1999 التي بدأت عهدها بكلمته الشهيرة في ساحة رابين في تل ابيب التي قال فيها:» انه فجر عهد جديد» ليصفعه الواقع صفعة مؤلمة انهت عهد هذه الحكومة بعد انتفاضة العام 2000، وهكذا كان عام 2006 حين تولى اهود أولمرت رئاسة الحكومة بعد تنفيذ خطة الانسحاب من طرف واحد من قطاع غزة، وبعد أن اعتقد ان خطوة اريئيل شارون هذه ستمنحه الفرصة المواتية لإنهاء سيطرة إسرائيل على الضفة الغربية ولكن هيهات هيهات لتأتي حرب لبنان الثانية في حزيران من نفس العام لتخلط الأوراق كلها تلاها انهيار مؤتمر انابوليس للسلام وكانت النهاية هزيمة حزب «كديما» ومن ثم زواله، وها هي هذه الحكومة تنشد التغيير ويريد الشركاء فيها ان يتم ذلك، ومن هنا يمكن تفهم فرح نصف مواطني الدولة بالحكومة الجديدة وانتهاء عهد نتنياهو ، وانطلاقاً من ايمانهم او تمنياتهم أن يكون الثنائي بينيت – لبيد قادراً على تخليص إسرائيل من دوامتها الحزبية والسياسية ومن تصدعاتها وازماتها وإنقساماتها الداخلية، رغم ان الجميع يدرك ان نتنياهو حتى وإن اختلفت معه سياسياً وايديولوجياً، استطاع منح إسرائيل 12 عاماً من الاستقرار الاستراتيجي مقابل ايران وحزب الله وحركة «حماس» وبالتالي فالمطلوب من الثلاثي غانتس- لبيد – بينيت العمل الدؤوب على خفض السنة اللهب مقابل الجبهتين الجنوبية والشمالية والتصرف بحكمة وروية مع الأخذ بعين الاعتبار محاولات المعارضة واليمين تسخين الأجواء كما كان في إصرار اليمين على مسيرة الأعلام الثانية متناسياً ، ان المسيرة الأولى كانت الشرارة للمواجهة العسكرية الاخيرة ، والتي ربما كانت متعمدة لأهداف سياسية وحزبية، وهذا هو التحدي الأول والرئيسي للحكومة الجديدة.
التحدي الثاني أمام الحكومة الجديدة هو تحسين وضع « موطني إسرائيل الثانية» أي اليهود من أصول شرقية والمواطنين العرب مع الإشارة الى ان الحكومة الحالية يمكن اعتبارها «حكومة اشكنازية» او « حكومة مدينة تل ابيب التي تحكم كافة مناطق الدولة» ، وإذا ما اضفنا الى هذا الوضع قضية او معضلة الشرعية او عدم الشرعية التي تلف هذه الحكومة وتركيبتها من ثمانية أحزاب فإن هذا يشير الى حقيقة المشاكل التي تواجهها الحكومة والتي يحظر على لبيد وبينيت تجاهلها على الإطلاق بل ان عليهما مواجهتها عبر مواجهة عدة مهام داخلية أولها مد اليد « لإسرائيل الثانية» وخاصة اليهود الشرقيين الذين يشعرون انه تم اقصاؤهم لمجرد ان الليكود ليس ضمن الائتلاف وكذلك العرب رغم وجود وزيرين عربين هما حمد عمار وعيساوي فريج، والمطلوب هو محاولة تقريب من يشعرون بالإقصاء واقناعهم بان الحكومة تعمل على خدمة مصالحهم وتحترم توجهاتهم وآرائهم ومنطلقاتهم، آملاً في تغيير مواقف ومشاعر بعضهم رغم الشكوك الكبيرة خاصة بكل ما يتعلق باليهود الشرقيين الذين ينتهجون التصويت الموروث او المتوارث والذين قد ينطبق عليهم أكثر من غيرهم قول الفيلسوف فولتير أنه من الصعوبة أن تحرّر السذّج من الأغلال التي يبجّلونها ، خاصة وان نتنياهو تمكن من الحكم والسيطرة عبر خلق توتر دائم ومتصاعد بين اليمين واليسار وبين العلمانيين والحريديم وكم بالحري بين العرب واليهود، ولكن رغم ذلك وبغياب نتنياهو الذي أدت مواقفه وتصنيفاته لمؤيديه ومعارضيه على حد سواء، الى إسكات بل وربما نزع الشرعية الجماهيرية عن كل ما يخالف موقفه من اليمين واليسار على حد سواء، قد يضطر السياسيون في البلاد من طرفي الخارطة السياسية الى التصريح علناً بمواقفهم واعلانها صراحة وصياغتها بشكل جديد بدلاً من مواصلة اجترار الشعارات وتكرارها بقوالبها التي صاغها نتنياهو نفسه.
لكن التحدي الأكبر هو الرؤية التي تعرضها الحكومة الجديدة والتي عليها في الأشهر القريبة القادمة ان تثبت أنها حكومة صالحة تعمل وفق تعليمات وأنظمة واضحة وصحيحة، والاكتفاء بذلك مقابل ما شهدته البلاد من خلل وظيفي في معظم الوزارات تم اكتشاف حقيقته ومداه بعد تسلم الوزراء مهام منصبهم وهو ما وصفه يئير لبيد انه دمار شامل وتكريس لمصالح المقربين بدلاً من المصلحة العامة، ما يحتم إصلاح أنظمة عملها أي الاكتفاء بإرساء أسس جديدة وواضحة للعمل الحكومي وتحقيق أهداف صغيرة وداخلية بدلاً من « الركض وراء اهداف كبيرة وضخمة، من الواضح ان تركيبة الحكومة الحالية لن تسمح بها فهي بتركيبتها الحالية لن تسارع الى مفاوضات سلام مع الفلسطينيين ولن تسارع الى الانسحاب من المناطق تماماً كما لن تسارع الى ضم أجزاء من المناطق ولن تسارع الى فصل الدين عن الدولة ولن تلغي قانون القومية بل لن تعمل حتى على تضمينه كلمة «المساواة» ويقيناً انها لن تعمل على صياغة دستور للدولة.
صحيح أن الحكومة جديدة لكن التحديات الإقليمية قديمة متواصلة فرغم اعلان قادة الجيش والاجهزة الأمنية ان السياسة قد تغيرت تجاه «حماس» في اعقاب المواجهة الاخيرة وان البالون الحارق سيُعامَل تماماً مثل الصاروخ والقذيفة الا ان الواقع كان اقوى على الاقل في بداية الأسبوع الحالي لتعاود البالونات الانطلاق من غزة نحو غلاف غزة ومحيطها كما استمرت تهديدات السنوار وأبو عبيدة وغيرهما مقابل الحديث عن خطة جاهزة اعدها وزير الأمن بيني غانتس ستنفذ اذا لم تتوقف عمليات اطلاق البالونات والإرباك الليلي التي انتقلت الى الضفة الغربية، علماً ان الخطة تشمل اجتياحاً برياً للقطاع وإضعاف حركة « حماس» بشكل يلزمها بالموافقة على شروط اسرائيل لصفقة تبادل الأسرى ، والى ذلك يجب ان نضيف قضية المستوطنات غير القانونية التي أراد الليكود وسموتريتش وبن غفير شرعنتها عبر قانون « المستوطنات الفتية والشابة» ومنها مستوطنة «افياتار» غير القانونية التي ردت سلطات الجيش التماس مقيميها مؤكدة انها أقيمت فوق اراضٍ فلسطينية وليس فوق « أراضي الدولة» وبالتالي لا مفر من اخلائها ما سيضطر مواطني البؤرة للالتماس الى محكمة العدل العليا ، والسؤال هل ستعمل الحكومة الجديدة على مواجهة ظاهرة المستوطنات غير القانونية ام انها ستغض الطرف عنها كما حكومات نتنياهو واليمين؟.
فوق كل ذلك على الحكومة الجديدة ان تحذر من «النهج الجديد» الذي تتبعه وسائل الاعلام وبعض مركبات الحكومة ويتلخص في محاولة تقزيم دور الاحتجاجات الشعبية والجماهيرية التي تواصلت لأكثر من عامين امام مقر رئيس الوزراء في القدس وعلى كافة المفترقات وفوق الجسور وغيرها، في إحداث التغيير وتنحية بنيامين نتنياهو عن رئاسة الحكومة وهو نهج خطير يتجاهل الدور الجماهيري في تغيير السلطة وتذويت قيم الديمقراطية والحرية في كافة انحاء المعمورة عبر نشاطات بدأت بتحركات جماهيرية صغيرة ومختصرة لفئات يهمها ما يجري وتطمح الى التغيير تماماً كأفكار ومسيرات مارتن لوثر كينغ او رئاسة براك أوباما الذي بدا حملته الانتخابية في اجتماع «هزيل» في بلدة صغيرة اسمها غرينوود في كارولينا الجنوبية بحضور نحو 20 شخصاً فقط حتى انه فكر للحظة بالتنازل عن الاجتماع والتنحي عن السباق لنيل ترشيح الحزب الديمقراطي لكنه تراجع بعد ان قررت احدى الحضور وهي مسنة ، اطلاق عبارات التشجيع له والدعم لمواقفه، وقال :» بإمكان صوت واحد أن يغير الأجواء في غرفة وبإمكان المتواجدين في الغرفة تغيير الحال في مدينة ومن ثم دولة بل تغيير العالم كله» ، وكم بالحري أن الحكومة الجديدة بحاجة الى كل الالتفاف والدعم الجماهيري لها مقابل وفي مواجهة محاولات نزع الشرعية عنها ..فشرعيتها تبدا من جماهيرها ومن مؤيديها وتتعزز بهم وهل تحصل على هذا أذا كانت تتصرف وكأنها حكومة يمين !!!.