لم نكن بحاجة لنتنياهو لكي يخبرنا بأن «تفاهماته» مع فلاديمير بوتين، أعطت سلاح الجو الإسرائيلي، يداً طليقة مكّنته من استباحة الأجواء السورية عرضاً وطولاً...من تابع المشهد السوري على امتداد سنوات التدخل العسكري الروسي الخمس، لم يفته الاستنتاج بأن أمراً كهذا قد وقع، وأنه لولا الضوء الأخضر الروسي، أو أقله، إدارة الظهر وإغماض الأعين المفتوحة دوماً في قاعدة حميميم، لما أمكن لإسرائيل أن تستمر في عربدتها المؤذية فوق الأراضي وفي السماوات السورية.
نتنياهو في «خطبة الوداع» في الكنيست، كشف عن أمرٍ كهذا في معرض تقديمه لجردة حساب بمنجزاته كـ«ملك إسرائيل»، وخلفاؤه من بعده، ومعظمهم من تلاميذه «النجباء»، يواصلون اليوم ما بدأه بالأمس، والمسألة كما يتضح، تقررها مصالح روسيا ومخاوفها، وليس المهارات البهلوانية لرئيس الحكومة المرتحل...روسيا تنزعج أحياناً من ضربات إسرائيل في سورية، لاسيما حين تستهدف الجيش السوري، بيد أنها لا تبدي انزعاجاً مماثلاً، حين تكون مواقع إيرانية و«رديفة»، هي الأهداف للغارات الجوية والضربات الصاروخية الإسرائيلية، لكن في مطلق الأحوال، لا يبلغ الانزعاج الروسي حد استخدام القوة المتوفرة لها في سورية، لوضع حد للعربدة الإسرائيلية، أو حتى التلويح باستخدامها.
روسيا استثمرت وتستثمر في الجيش السوري، وهي لطالما كانت بأمس الحاجة للإسناد البري الإيراني و«الرديف» زمن المعارك الأرضية الكبرى مع المعارضات والجهاديين في عموم الأراضي السورية، بيد أنها اليوم، بل ومنذ أن أعلنت أن زمن المعارك الكبرى في سورية قد ولّى، لم تعد بذات الحاجة للوجود الإيراني، حتى أنها باتت ترى فيه، منافساً لنفوذها، يحدّ من قدرتها على ممارسة ضغوط على النظام في دمشق، الذي قد يجد في الفجوة بين أهم حليفين له، هامشاً للحركة والمناورة...لهذا تضرب موسكو صفحاً عن الغطرسة الإسرائيلية، ولا تبدو منشغلة بالغارات الإسرائيلية شبه الأسبوعية.
بعد عملية «سيف القدس»، انتشرت نظرية وانعقدت رهانات، بأن ما مضى لإسرائيل فوق سورية، لن يستمر لها...وأن دمشق سترد على كل ضربة إسرائيلية بمثلها، كيف لا وهي تمتلك من القدرات ما لا يتوفر لغزة وحماس بحال من الأحوال...يومها، وفي غير مناسبة، جادلت بأن أمراً كهذا لن يحدث، وإن وقع عمداً أو سهواً، كما في حالة الصاروخ السوري الذي وقع على مقربة من «ديمونا»، فلن يكون أمراً متكرراً، ولن يؤسس لمعادلات وقواعد اشتباك جديدة بين الجانبين...لقد شعرت، وما زلت أشعر، بأن مفاهيم من نوع معادلات القوة وقواعد الاشتباك، لم تُبتذل يوماً كما ابتذلت في أزمنتنا ومنطقتنا.
نفذت إسرائيل بعد «سيف القدس»، سلسلة من الضربات المؤلمة، استهدفت الجيش السوري ذاته، وسقط العديد من الشهداء والجرحى...لا شيء تغير، وما زال النظام في دمشق، يصر على «عدم الوقوع» في «الفخ» الإسرائيلي، وأنه وحده من يقرر زمان ومكان ممارسته لحقه في الرد.
ومع ذلك، لا يبدو أن بعض العقول قد قررت استحداث القطيعة مع أوهامها وأحلامها، فالإصرار ما زال قائماً على أن ثمة محوراً ممتداً من موسكو إلى الضاحية الجنوبية، مروراً بطهران وبغداد ودمشق، وما زال البعض يتحدث عن سورية بوصفها ركناً ركيناً في «محور المقاومة والممانعة»، وهذا شأنهم على أي حال، لكننا نود لو نحذرهم من مغبة الغرق والإفراط في الأوهام والرهانات...أولوية موسكو، شق قنوات تفاوضية بين دمشق وتل أبيب، والأسد يعطي إشارات عن رغبته في الانضمام لعملية سلام مع إسرائيل، فهو مهتم بـ«العملية» بالنظر لما قد تترتب عليها من انفراجات في علاقاته الدولية، حتى وإن ظل «السلام مفقوداً»...ولطالما دخلت دول وأطراف في مسارات سلام، وهي تدرك مسبقاً، بأنها لن تصل إلى مطرح، إما لعجزها وانعدام بدائلها، وإما لغايات تتصل بـ«العملية» ولا تتعلق بخواتيمها.