أن تنفي الادارة الاميركية صلتها بالتحرك العسكري الواسع والمبرمج والمفاجئ الذي قام به اللواء المتقاعد خليفة حفتر، وان «تؤكد» انها لم تتصل به، فهذا يعني في القاموس الأميركي، عكس ذلك تماماً، أي ان واشنطن تكذب كعادتها، هذا النفي لن يغيّر من «الإرث» الاميركي القائم على النفاق والكذب والاستخدام المفرط لماكنة غسيل الكلام على اكثر من صعيد داخلي وخارجي..
خليفة حفتر، الشخصية العسكرية، التي احتُسِبَتْ ذات يوم على القذافي، الذي اوقع آلاف الجنود الذين كانوا تحت امرته في هزيمة مروعة امام القوات التشادية ضعيفة التسليح والامكانات، ما اضطر الاخ قائد الثورة (وقتذاك) للاستعانة بـ (الثوار) في لبنان، لبنانيين وفلسطينيين، فهرع اليه وليد جنبلاط وفصائل فلسطينية ثورية «جداً»، لقي معظم «الأنصار» المصير البائس نفسه الذي لاقاه جنود حفتر، وخصوصاً بعد انقاذ واشنطن للأخير، الذي وقع (وقيل لجأ) في الأسر التشادي بعملية عسكرية استخبارية معقدة، أُخِذَ بعدها اللواء الصنديد الى اميركا واستمر في كنفها وتحت رعاية وكالة الاستخبارات الاميركية CIA طوال ربع قرن جرى تأهيله أكثر من مرة، كي ينقلب هو وباقي المعارضات الليبية على العقيد، لكن القذافي كان اكثر يقظة، ولم ينمْ خلال نوبة الحراسة، ما ألحق اليأس بحفتر – الذي يرى نفسه شريكاً «اصيلاً» في ثورة الفاتح من سبتمبر 1969, لكن CIA لم تتعب وأبقت على اللواء الليبي قريباً منها لاستخدامه عند الحاجة له, أو لإهالة التراب عليه اذا ما استنفد دوره او انتهت صلاحيته.
لهذا لم يصدّق حفتر ان «التقاعد» بات قدره, وأن الذين ساندتهم مباشرة وعلناً باريس ساركوزي ولندن كاميرون، وواشنطن اوباما (ولكن في قيادة من الخلف) هم الذين يتصدرون المشهد, تارة يبرز شيخ رمادي وشخصية باهتة تدعى مصطفى عبدالجليل, وطوراً يجري تلميع مستشار سيف الاسلام النجل «الاصلاحي» للأخ العقيد, محمود جبريل, ثم تجري عملية اطاحته في شكل مهين تحت وطأة السلاح والتهديدات بالتصفية، ليتقدم الى الامام اصحاب اللحى والجلابيب، ويظهر الى السطح الاخوان المسلمون بحزبهم العدالة والبناء, ولا تنحسر الاضواء عن عبدالكريم بلحاج الذي يبشر بثورة اسيلامية «أممية» ويعلن الجهاد في سوريا يمدّ ثوارها (وهم مثله ثوار الناتو وصناعية) بالعديد والعتاد, اعتماداً في الاساس على النموذج المعتدل الساعي لاستعادة ارث اجداده العثمانيين والسلاجقة, اردوغان, لكن دائرة العنف والتمرد والاقصاء والتصفية المضادة لا تتوقف في ليبيا الجديدة, فضلاً عن العبث المتواصل في دور وصلاحيات «البرلمان» الذي وضعوا على رأسه «امازيغي» ظناً منهم–لفرط سذاجتهم وضحالة خيالهم السياسي–انهم بذلك يطوون صفحة الاقليات كبديل عن الحوار وثقافة المواطنة وسيادة القانون واحترام حقوق الانسان والعدالة الاجتماعية.
اطاحوا علي زيدان الذي فرّ هارباً الى وطنه الثاني (يحمل الجنسية الالمانية) ليضعوا عبدالله الثني في موقعه بالوكالة, وحيث لا صوت يعلو على صوت الميليشيات, التي تدير حملات عربدة واستقواء وتمرّد معلن وتمعن في اذلال الناس والمسّ بحرياتهم وممتلكاتهم, ولا تتورع عن قتلهم وتعذيبهم واختطافهم مقابل فدية أو تبادل سجناء, فإن الرجل–الثني–اعلن استقالته وزهده في المنصب, فلم يلبث الاخوان المسلمون ان قادوا «انقلاباً» حقيقياً فرضوا بموجبه رجل اعمال مقرباً منهم (احمد معيتيق) مرشحا لحكومة جديدة، وهنا شعر (او صدر اليه آمر العمليات الاميركي) خليفة حفتر، بأن الفرصة مواتية لانقلاب مضاد يحمل شعار محاربة الاخوان وتيارات الاسلام السياسي المتطرفة وكان له ما اراد، على نحو هيأ ليبيا للدخول في حرب اهلية قد تفوق في بشاعتها ما حدث في الجزائر تسعينيات القرن الماضي وربما تذهب الى صيغة ما، من اللبننة او الصوملة بل ليس مستبعدا ان يطبق فيها السيناريو السوري..
هذا لا يعني ان الاخوان المسلمين في ليبيا ضحايا حملة منظمة تقودها اميركا التي لم تفقد «بعد» رهانها عليهم ولم تسارع الى فك تحالفها معهم حتى وهي تعيد الى الواجهة مسألة قتل السفير الاميركي «سيتيفنز» في ليبيا اثناء تواجده في القنصلية الاميركية ببنغازي.
المتابع لما يكتبه مناصرو الاخوان وكتائب التدخل السريع ذات الايديولوجية الاخوانية، يلحظ ضحالة وهشاشة المقارنة، التي يعقدونها بين ما حدث في مصر يوم 30 تموز 2013 عندما تم عزل الاخواني محمد مرسي والحركة (يسمونها – في الحالين–الانقلاب) التي قام بها اللواء حفتر في 18 ايار الجاري، وطبعا امعنوا في اظهار مظلومية الاخوان وتواطؤ اميركا (نعم اميركا حليفتهم حتى الان) ولم يترددوا في «تبشيرنا» بفشل الانقلابيْن.
اميركا ليست بريئة من تحرك اللواء حفتر، وهي ترى فيه دمية او اداة في اطار حربها على ما تسميه الارهاب، بعد ان اخذ عود القاعدة يشتد في شمال افريقيا والصحراء الكبرى بدليل ما يحدث في تونس والجزائر وليبيا ومصر وافريقيا الوسطى (حرب اهلية طائفية) ومالي، اضافة الى الفوضى الضاربة في جمهورية جنوب السودان ناهيك عما تحمله الازمة السورية من مخاطر.
تكذب اميركا عندما تنفي صلتها باللواء حفتر، لكن الذين يرفعون عقيرتهم بالشكوى وذرف الدموع على «الاخوان»، يتناسون عن عمد ان غباء الاخوان وجشعهم وشبقهم للوصول الى السلطة، يدفع الناس للتراص والتضامن في...مواجهتهم.