حظيت القمة الثالثة للقاء الثلاثي بين قادة كل من الأردن ومصر والعراق، التي التأمت في بغداد، مؤخرا، باهتمام واسع، سياسيا وإعلاميا، من قبل عواصم إقليمية ودولية، وولّدت فيضا من ردود الفعل المعلنة والمضمرة، المتضاربة، إذ نظرت إليه الأطراف المختلفة، من زوايا مختلفة.
بقراءة مدققة للبيان الختامي، وما صدر عن قادة ومسؤولي الدول الثلاث من تعقيبات وتعليقات، يمكن الاستنتاج أن اللقاء بين دول سبق لها وأن كانت في مختتم ثمانينيات القرن الفائت، ركنا ركينا من لقاء رباعي، عُرف باسم «مجلس التعاون العربي»، وضم إلى جانبها اليمن، وهو الإطار الذي لن يعمر طويلا، قبل أن ينهار إثر غزو، صدام حسين، للكويت، وبقية القصة معروفة.
أقول: يمكن الاستنتاج بأن اللقاء الثلاثي يستند إلى جملة توافقات، يمكن إفراغها في أربع سلال:
السلة الأولى؛ سياسية، إذ يكشف البيان الختامي عن مروحة واسعة من التوافقات السياسية حيال معظم، إن لم يكن جميع، قضايا الإقليم الملتهبة، بالأخص تلك المتعلقة بالدول الثلاث... دعم مصري – أردني للحكومة العراقية ورئيسها، مصطفى الكاظمي، لاستكمال الحرب على الإرهاب، وإعادة البناء والإعمار، والأهم دعمه في مسعاه لتجنيب العراق «سيناريو صندوق البريد» لتبادل الرسائل الإقليمية والدولية، على حد تعبير الكاظمي نفسه، ومساعدته على حفظ أمن العراق واستقلاله وسيادته ووحدته... الأردن في المقابل، حظي بدعم عراقي – مصري، لدوره في عملية سلام الشرق الأوسط، ورعايته للمقدسات الإسلامية في القدس، وجهوده لحفظ الطابع التاريخي والقانوني لمدينة القدس... أما مصر، فقط حظيت بدعم عراقي – أردني، في جهودها لتثبيت التهدئة في غزة ومساعدة سكانها وإعادة إعمارها، فضلا عمّا تقوم به من محاولات لإنهاء الانقسام الفلسطيني... ليست هذه هي «الثمرة» الوحيدة التي عاد بها الرئيس، عبد الفتاح السيسي، من بغداد، فقد حظي كذلك بدعم قوي من الدولتين الشريكتين، لمواقف مصر ومصالحها في نزاعها مع أثيوبيا، إلى جانب السودان، حول قضية سد النهضة ومياه النيل.
الأطراف الثلاثة، خرجت راضية سياسيا، بعد أن وجدت نفسها، تقرأ من نفس الكتاب، وهي تنظر إلى مختلف الأزمات الإقليمية: دعم الفلسطينيين لاسترداد حقوقهم على قاعدة «حل الدولتين»... حل سياسي لليمن وتشديد على وقف إطلاق النار والملف الإنساني توطئة للحل الشامل، دعم للحكومة الليبية وبرنامج الانتقال في ليبيا، حرص على وحدة سورية واستقلالها وسيادتها، وتشديد على الحل السياسي وفقا للمرجعيات المعروفة، إلى غير ما هنالك من عناوين بدا أن نظرة الأطراف لها منسجمة للغاية.
السلة الثانية؛ الأمنية، وهنا احتلت «محاربة الإرهاب والتطرف» مكانة محورية في محادثات القادة الثلاثة، وبدا أنهم متوافقون أيضاً في كيفية تناول هذا الملف: العراق كان الضحية الأبرز لصعود «داعش» وتفاقم الخطر الإرهابي، مصر ما زالت تكتوي بنيران الجماعات الإرهابية المتطرفة في سيناء والوادي، والأردن، يحيط به التهديد الإرهابي من حدوده الثلاثة: الشمالية (سورية) والشرقية (العراق) والجنوبية (سيناء)... ثمة مروحة واسعة من التفاهمات حول كيفية تنسيق المواقف وتبادل المعلومات والخبرات والتدريب، والتعاون العسكري، لم يجر الإفصاح عنها، وستجري بلورتها من قبل المختصين في اجتماعات لاحقة.
السلة الثالثة؛ الاقتصاد والتجارة والاستثمار، وثمة الكثير مما يمكن تبادله بين أطراف المثلث المذكور، وبصورة تعزز فرص التعاون والتكامل، مدن صناعية مشتركة وتسهيلات لحركة انتقال الأفراد والأموال والخدمات والسلع، وثمة الكثير من الخبرات والمهارات التي يمكن تبادلها، وثمة «نوايا» لتفعيل كل هذا وذاك، لا سيما وأن «التحدي الاقتصادي» و»الأمن الغذائي» باتا الشغل الشاغل للإقليم، وسيظلان كذلك، في مرحلة ما بعد «كورونا».
السلة الرابعة؛ وهي طافحة بمشاريع استراتيجية في مجال الطاقة: الربط الكهربائي لتبادل الفائض بين الدول الثلاث، مشاريع بنية تحتية في مجال توليد الكهرباء، أنبوب الغاز العربي العابر لحدود الدول الثلاث، ومعه أنبوب النفط الممتد من البصرة إلى العقبة وصولاً إلى الموانئ المصرية على المتوسط.
ولقد استجابت الأطراف لاقتراح الكاظمي بإنشاء سكرتاريا دائمة، تتناوب العواصم الثلاث على استضافتها، لضمان نقل هذه التفاهمات والاتفاقات إلى حيز التنفيذ، بعد سنوات عديدة من الفشل المتكرر في ترجمة اتفاقات ثنائية وثلاثية سابقة، وفي ضوء الدروس المستفادة من تجارب التعاون العربي البيني، حيث تحتشد الأدراج بعشرات المشاريع والاتفاقات التي لم تجد طريقها إلى الميدان.
لقاءات ثلاثة حتى الآن، والرابع على الطريق، بين قادة الدول الثلاث، إذ استثنينا اجتماع نيويورك على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة، جعلت المراقبين وعواصم القرار الدولي والإقليمي، تتحدث عن «تكتل» أو «محور» جديد قيد التشكل في الإقليم، وهو ما دفع بجهاتٍ عدة، لطرح المزيد من الأسئلة والتساؤلات، منها على سبيل المثال، لا الحصر:
لماذا الآن؟
الجواب، إن هذه الدول تطحنها وإن بتفاوت، أزمات اقتصادية واجتماعية خانقة، تتحول في ضوء استطالتها وتطاولها على معيشة المواطن، إلى مصدر من مصادر تهديد أمنها الوطني، وإن هذه الأطراف، ترى أن «الفرصة الخليجية» في طريقها للاستنفاد، فدول الخليج ذاتها، تواجه ما تواجه من تحديات مالية واقتصادية، وهي تتجه لضبط إنفاقها الباذخ، وتودّع مرحلة «الدول الريعية»، والأمر مرشح في السنين المقبلة، لمزيد من الانكماش في أدوارها السياسية المُتأسسة على اقتدارها المالي... يبدو أن العواصم الثلاث، لم تعد تجد خيارا آخر، غير تكثيف تعاونها وتعظيم فرصها.
ثلاثة عوائق
ثمة عوائق ثلاثة، تعترض مسار ومصير اللقاء الثلاثي:
الأول، أن يُنظر إليه بوصفه حلفا أو محورا في مواجهة أطراف عربية (خليجية) أو إقليمية (إيران وتركيا)، لا سيما وأن كثرة من المراقبين، رأت في الاقتراب الأردني – المصري من بغداد، وسيلة لإبعاد الأخيرة عن طهران، وهو أمر لا يمكن نفيه بالكامل، بل وهو يلقى صدى إيجابيا عن بعض الكيانات والمكونات العراقية، التي تنادي برفع القبضة الإيرانية عن العراق، وتدعو حكومة بلادها لاستعادة علاقات العراق بعمقه العربي، أقله لاستحداث التوازن الضروري مع النفوذ الإيراني.
ويزيد الأمر تعقيدا، أن واشنطن دخلت سريعا على خط اللقاء الثلاثي وأشادت به، دون أن تخفي أو «تُجمّل» نواياها، فهو مطلوب لاستنقاذ العراق من براثن الهيمنة الإيرانية... وربما هذا ما دفع بكتاب محسوبين على مؤسسات القرار في طهران، لوصف الدول الثلاث بـ»الفاشلة والوظيفية»، والتشكيك بقدرتها على إنجاز المطلوب منها أميركيا، وكفاءتها في إنجاز التفاهمات والاتفاقات المبرمة.
لكن تجدر الإشارة هنا، أن ثمة «ميزانا دقيقا» لاختبار هذه المقاربة وممارستها... فأي تماد في السعي لاستبعاد إيران ومحاصرة نفوذها في العراق، سيقابل بردود فعل غير مضمونة وغير متوقعة من طهران، وقد يفضي ذلك كله، إلى إعادة خلط المشهد العراقي الداخلي، وتمكين الاتجاهات العراقية، الأكثر تطرفا، والأكثر قربا من طهران، على الإمساك بزمام السلطة والقرار، وإخراج القوى الوسطية، الأكثر توازناً، والتي يجسدها الرؤساء الثلاثة بشكل خاص.
وما ينطبق على إيران، ينطبق بالقدر ذاته، أو أقل قليلا، على تركيا، التي تحظى بدورها بوجود عسكري وسياسي واستثماري وازن في بلاد الرافدين، وبدرجة أقل على دول الخليج، بالذات السعودية، التي وإن كانت ترغب في إخراج العراق من دائرة النفوذ الإيراني، إلا أنها تدرك تمام الإدراك، أن عودة العراق إلى محيطه العربي، من بوابة عمان والقاهرة، العاصمتين التي تشعران بأن الفرصة قد توفرت لاستعادة ما هو لهما، من أدوار إقليمية، سعت إدارة ترامب في تحجيمها وتهميشها، قد تنشئ تحديا لممارسة دورها القيادي في المنطقة، والذي تعاظم في آخر ثلاثة أو أربعة عقود.
والخلاصة: إن نجاح اللقاء الثلاثي، مرهون بعدم تحوله إلى «محور» في مواجهة أي من المحاور والتكتلات الإقليمية، والاكتفاء بالتركيز على ما ينفع شعوب الدول الثلاث، ويعظم مصالحها.
العائق الثاني؛ ويتعلق بالداخل العراقي، فثمة أسئلة وتساؤلات، مفعمة بالشك والتشكيك، نشأت عشية القمة وغداتها، منها ما ذهبنا إليه من مخاوف ولادة محور في مواجهة إيران، بعد فشل «التحالف الشرق أوسطي الاستراتيجي» الذي أعلنه ترامب من الرياض في أولى زياراته للمنطقة، في تحقيق أغراضه ومراميه... ومنها ما إذا كان هذا اللقاء بمثابة «حصان طروادة» لاستدراج العراق إلى «فخ التطبيع» مع إسرائيل، وهذا هو الوجه الآخر للسؤال السابق... ومنها أسئلة عمّا يمكن للعراق أن يجنيه ويتحصّل عليه، من لقاء مع دولتين فقيرتين عموما، وهل ستكون «ثروات العراق ونفطه»، محط أطماع الشريكين الأردني والمصري؟
إن بث رسائل طمأنينة، ورسم خريطة أولويات ومصالح العراق من هذا اللقاء، يبدو أمرا ضروريا، بل وشرطا لازما لإنجاح التجربة، وأي تجمع لا يلحظ «الندّية» والنفع المتبادل والمتكافئ، لن تكتب له الاستدامة، وهذه مهمة الحكومة العراقية أولا، بيد أن عمان والقاهرة ليستا خارج المسؤولية في توضيح مختلف جوانب النفع المتبادل بين الأطراف الثلاثة.
هنا، وطالما أن الحديث يدور حول الداخل العراقي، نفتح قوسين لنقول: إن نتائج الانتخابات المبكرة المقبلة في العراق، ستلعب دورا مهما في تقرير مستقبل اللقاء الثلاثي، أو على أقل تقدير، في تقرير سرعة ووتيرة إنجاز الاتفاقات المبرمة... هذا الاتفاق، هو النتيجة المنطقية لنظرية الكاظمي حول «المشرق الجديد»، فمن يضمن بقاءه في الحكم؟ صحيح أن اللقاء سابق على الكاظمي، وتطور في عهد، عادل عبد المهدي، لكن الصحيح أننا لم نر إنجازا عمليا يذكر، ونحن بحاجة لمعرفة، اتجاهات وتركيبة حكومة ما بعد الانتخابات العراقية قبل نهاية العام الجاري.
العائق الثالث؛ إقليمي بامتياز، هنا يمكن القول إن مقاربة «أقصى الدبلوماسية» ومفاوضات فيينا حول البرنامج النووي الإيراني، والقناة البغدادية للحوار السعودي – الإيراني، والانفتاح التركي على كل من مصر والسعودية، والمصالحة الخليجية والمقاربة القطرية الجديدة، جميعها عوامل تساعد اللقاء الثلاثي على مواصلة مشواره، لكن أعين المراقبين يتعين أن تظل مفتوحة لمراقبة التطورات القادمة... فثمة عوائق ما زالت تعترض عودة واشنطن لاتفاق فيينا النووي، وثمة تصعيد تفاوضي وميداني بين واشنطن وطهران، وانتخابات إيران جاءت برئيس «ثوري» إلى سدة الحكم في إيران، وليست لدينا دلائل كافية عن حصيلة الحوارات السعودية – الإيرانية، وأي انتكاسة في مسار الانفراجات الإقليمية والدولية هذه، من شأنها أن تلقي بظلالها على اللقاء الثلاثي، حتى وإن توفرت القناعة للأطراف الثلاثة بحاجتها للقاء والتنسيق والتكامل.
والخلاصة الختامية، أن للقاء الثلاثي عوامل دفع وتحفيز جوهرية ومتعددة، وأن ثمة أسسا صلبة يمكن أن يتكئ عليها، لكن العوائق والتحديات، ما زالت ماثلة على طريق إتمام مراميه وتحقيق غاياته، والحذر ينبغي أن يظل سيد الموقف، دون إفراط في التفاؤل، أو تفريط بالفرصة المتاحة.