يتوهم من يعتقد أن الأردنيين يختلفون عن الشعوب المتقدمة ذات المكونات التعددية، والطموحات الديمقراطية، والرغبة الجامحة في الاحتكام النزيه لصناديق الاقتراع في إدارة مؤسساتهم المنتخبة، ففي فترة الغياب القسري للبرلمان وللأحزاب طوال مرحلة الأحكام العرفية 1957- 1990، كانت النقابات المهنية، وبعض النقابات العمالية المستقلة، والجمعيات الخيرية، والأندية، تشهد نشاطات ملحوظة في دوراتها الانتقالية، طوال عشرات السنين؛ ما يعكس مدى انحياز الأردنيين للعمل والنشاط النقابي والإداري والجمعي انعكاساً مباشراً للعمل السياسي، وتعبيراً عنه.
صمود السياسيين من الشيوعيين والبعثيين والقوميين العرب وأتباع حزب التحرير، وعدم الانكفاء عن التزاماتهم الحزبية، وقضاء سنوات في مواقع الاحتجاز، واستثمار الإخوان المسلمين للظروف المتاحة لهم في تعزيز مواقعهم، جميعها دلالات ملموسة عن مدى رغبة الأردنيين وانحيازهم للعمل السياسي والحزبي.
ولكن التراجع والانحسار الحزبي يعود لأسباب وتطورات عالمية إقليمية ودولية خارجة عن إرادة الحزبيين الأردنيين ورغباتهم، يقف في طليعتها:
أولاً: هزيمة الشيوعية والاشتراكية والاتحاد السوفيتي في الحرب الباردة وانعكاس ذلك عالمياً على أحزاب التيار اليساري، بما فيها بلادنا.
ثانياً: إخفاقات تجارب وقادة ورموز قيادات التيار القومي، إما بسبب قوة الهجمة والاستهداف من قبل القوى الاستعمارية والإمبريالية الأميركية والأوروبية والمشروع الاستعماري التوسعي الإسرائيلي، وإما بسبب غياب خيارات التعددية والديمقراطية لدى الأنظمة التي قادوها، وهيمنة الأحادية الذاتية الضيقة، وعدم قدرتهم على تقديم نموذج ديمقراطي تعددي يُحتذى، انعكس ذلك كله على مكانة أحزاب الخيار القومي، وضعف انتشارها، ومع ذلك نراها متشبثة بالصمود والمثابرة وإعادة التكوين.
ثالثاً: حظيت أحزاب وخيارات التيار الإسلامي باستثناء حزب التحرير بالحظوة والدعم، من قبل العديد من الأقطار العربية والإسلامية، وخاصة حركة الإخوان المسلمين، طوال مرحلة الحرب الباردة، وفي بلدنا خلال مرحلة الأحكام العرفية، فتقدمت الصفوف، ونالت الرضى، وفتحت لها أبواب العمل والنشاط الفكري والسياسي والجماهيري، في بلدان عربية، لمواجهة التيارات السياسية واليسارية والقومية المعارضة.
حصيلة تعززت معالمها بعد أحداث الربيع العربي وصعود أحزاب التيار الإسلامي، واستلامها لمهام الإدارة والحكم في عدد من الدول العربية، ولكنها أخفقت في إعطاء الأولوية للديمقراطية واحترام التعددية وقبول الأخر، وفشلت في إدارة التغيير من قبل داعش والقاعدة وتيارات اسلامية، وانعكاسه السلبي على مكانة وحضور التيار الإسلامي.
إذن ليست خيار الأردنيين في عدم الانخراط لدى الأحزاب السياسية، بل إن المناخ السائد هو الذي حال ولازالت تداعياته هي التي تحد من الانحياز للعمل الحزبي، إضافة إلى الثقافة الموروثة من فترة الأحكام العرفية.
الحزبيون يتمتعون بظاهرتين نبيلتين هما: 1- تمسكهم بالعمل الجماعي وشروطه، 2- بالعمل التطوعي وتضحياته، وهذا يحتاج للتعميم والثقافة وإرساء تقاليد، بديلاً لثقافة الخوف والقلق والحرمان من المواقع والتقدم لصالح قوى الشد العكسي المعادية للأحزاب وللحزبيين.