أو لنقل: ما قبل الانتصار بقبلةٍ، وما بعد النجاة بدمعة. وبوسعنا، الآن، أن نقول: من عهد الفرقة الناجية إلى عهد الدولة الناجية.
ولماذا لا نقول أيضاً: ظل قلبكِ أخضرَ، وما جفَّ منكِ غير أوراق الخريف.
أكان على "التوانسة" أن يدفعوا كل هذا الثمن حتى نفهم نحن العرب، وندرك أن تونس تعود مرة أخرى لتصدُّر المشهد، مشهد الدفاع عن ثورة مغدورة؟
يبدو أن تونس التي نحبها ونخاف عليها وهي متعبة وهي متمردة. وهي ثائرة وهي صابرة، تونس في كبوتها وفي أعالي نخوتها وعزتها تعلمنا دروساً في شجاعة الإقدام، وفي مهارة الدفاع عن الوطن.
مرة أخرى تعلمنا تونس تجربة جديدة:
إذا أردت أن تكون النموذج والقدوة، فلا أقلّ من دفع الثمن ومن شرف المحاولة.
من سيغامر بعد اليوم، أن يقف في وجه شعب بأغلبيته الساحقة، ومن له امتلاك "الجرأة" على معاودة الخديعة؟
بوسعنا أن نقول، الآن: انكشف المستور، وبانت الحقيقة، فإما ثورة نحو الكرامة والتنمية والعدالة، ونحو الحرية الحقيقية، والديمقراطية الممكنة، أو المزيد والمزيد من الثورة في الثورة. هذه هي تونس، وهذا هو النموذج التونسي الذي يصر بعناد على البقاء في المقدمة.
أولى الثورات
وأولى الرايات
لا شيء فوق الوطن، ولا شيء بعد الوطن.
"التوانسة" يعيدون الأمور إلى نصابها، ويقولون للذين "تربّعوا" على عروش البلاد، وتحكموا بالعباد، أن تونس لم تَثُر، ولم تنثر ياسمينها ودمها أيضاً للعبور من عالم "الكفر والضلال" إلى عالم النور والإيمان وعالم الحلال.
كان الشعب التونسي وما زال بحاجة إلى الخبز والعمل، والى الصحة والتعليم، والى تجاوز التخلف والعبور الى المستقبل. لم يكن ممكناً أن يقبل الشعب التونسي ان تبقى البلاد وأن يبقى العباد في قبضة "النهضة"، رهن الاحتباس السياسي، ورهن الاعتقال التنموي، ولم يكن ممكناً أن تستمر خديعة التستر على الفساد، ولا على مصادرة دور الدولة والمؤسسات، ولا طبعاً على تاريخ من التقاليد الكفاحية العريقة لمجتمع مدني حي وفاعل ومتأهّب ومتوثّب.
ثبت، الآن، أن الرئيس التونسي ليس لديه ما هو أهم، وما هو أعلى وأغلى من عودة البلاد التونسية إلى أحضان الحرية التامة، والديمقراطية الناجعة، والمؤسساتية الصلبة القابلة للمحاسبة والقادرة على الفعل والتأثير والتغيير.
لم تعد مقولات "الانقلاب" و"الانقلابية"، ولا مقالات التحارص على حقوق الإنسان والتغني بها تنطلي على الشعب التونسي، ولم يعد "التوانسة" على استعداد، وليس لديهم ترف الوقت لعقد آخر من الخداع والتضليل، ولا طبعاً للمزيد من "فرص" التغلغل في ثنايا وتلابيب النسيج الوطني، ولا الاجتماعي بهدف إجهاض المشروع الحقيقي للإنقاذ الوطني، وحماية الدولة الوطنية والحفاظ على مؤسساتها.
لم يعد ممكناً التهرب من جرائم التمويل الخارجي، الذي بدأ بالافتضاح التام، ولا من تمويه وتتويه العدالة عن القتلة الحقيقيين الذين اغتالوا (بلعيد والبراهمي)، ولا الذين سهّلوا للإرهاب مهامه وطريقه، ولا التهرب من عديد الجرائم التي ما زالت تلاحق عددا "لا بأس" به من أعضاء مجلس النواب في مشهد أخلاقي مشين.
الآن، وقد فشلت دعوات حزب النهضة "للتظاهر" حتى إسقاط الانقلاب و"العودة للديمقراطية"، وبعد هذه الفضيحة المدوية والدليل الدامغ على عيش هذا الحزب في حالة لا يحسد عليها في متاهة إنكار الواقع، بقي على الرئيس التونسي، ومن خلفه والى جانبه، والبعض من أمامه أيضاً أن يسارعوا إلى تحديد الآليات الدستورية والديمقراطية أولاً، والى وضع جداول زمنية مناسبة ثانياً، والى تحديد ملموس لكل الخطوات والإجراءات القادمة في المدى المباشر لخارطة طريق وطنية وديمقراطية ناتجة عن حوار وطني مسؤول وجاد لإنقاذ البلاد والوصول بتونس الى بر الأمان ثالثاً.
لتسرع تونس ببطء ـ كما يقول المثل اليوناني القديم، ولتتأنى وتتروى في اختبار رجالات ونساء الإنقاذ الوطني من أهل الإرادة الوطنية وعزيمتها، ومن ذوي الكفاءة والقدرة والاقتدار، ومن العقول النيّرة، ومن حكماء تونس وقادتها المشهود لهم بالنزاهة وإعلاء شأن القيم والمبادئ، والمعروفين بنظافة اليد، ومن أنقياء السريرة وشرف المسيرة.
لم تعد الأمور لا في تونس ولا في كل بلاد العرب تتحمل ولا ان تحتمل أي عبث او ارتجال، او أي خضوع لأي ابتزاز من أي نوع كان، طالما ان الأمور قد وصلت ـ او لنقل انهم أوصلوها ـ الى حيث، والى حدود تهديد وجود الدولة وتهديد وحدة المجتمع والسطو المعلن على المؤسسات الوطنية.
ولا يجب بعد اليوم، ان ينخدع احد لا بمعسول الكلام ولا بتصنع "الحداثة"، ولا "بالانطلاق" مما حققه المجتمع التونسي من مكتسبات ثقافية واجتماعية والبناء عليها والذي تبين ان الذي جرى، والذي كان يجري قبل يوم واحد من إجراءات الرئيس هو التخطيط الكامل والشامل لهدمها والإجهاز عليها.
كلنا قد خدعنا الى هذه الدرجة او تلك، وبهذا القدر او ذاك. كاتب هذه السطور كان احد الذين خدعوا او تعرضوا للخديعة، عندما شاهدنا وقرأنا وتابعنا أحاديث حزب النهضة عن الديمقراطية، وعن إعلاء شأن هذه القيمة في تونس، وعندما طرح حزب النهضة رؤيته في "الإعلام" بكونه حزباً وسطياً ضد الغلو والتطرف، ومع "تفهم" بعض الجوانب المقبولة للحداثة ومنجزاتها على الصعيد الكوني.. اعتقدنا ـ ساذجين طبعاً ـ أن "الإسلام السياسي" يمكن أن يكون جزءاً فاعلاً ومكوناً أصيلاً من مكونات بناء المؤسسة الديمقراطية، بل والثقافة الديمقراطية. فماذا كانت النتيجة؟
تماماً كما تعرضنا لخديعة أخرى عندما ذهبنا ـ مجموعة من الكتّاب والصحافيين الفلسطينيين ـ بدعوةٍ من رئاسة الوزراء التركية في جولة تعريفية بالنظام السياسي في تركيا، وكان الرئيس الحالي يشغل منصب رئاسة الوزراء، وقد رُتبت لنا لقاءات مهمة مع الرئيس عبد الله غول، ورئيس الوزراء رجب طيب أردوغان، ووزير الخارجية احمد داود أوغلو، ومع عدد كبير من القيادات التركية والمؤسسات الأهلية والأكاديمية. في حينها قال لنا أردوغان: الإسلام بالنسبة لنا هو ثقافة وليس أيديولوجيا.
طرنا فرحاً في حينه، واعتبرنا ان التجربة التركية يمكن ان تشكل نموذجاً للشراكة مع فصائل بعينها من فصائل "الإسلام السياسي" ووصلنا في التفاؤل إلى درجة السذاجة التامة.
توسّمنا خيراً، وبقي يحدونا الأمل بأن الأمور يمكن ان تأخذنا الى مسارات جديدة نحو الديمقراطية ونحو التنمية وعندها ـ وطالما ان الإسلام ليس للاستخدام السياسي والتوظيف السياسي ـ أي ليس أيديولوجيا فليس لأي أحد مشكلة مع هذا "الإسلام السياسي" من أي نوع كان!
وهنا أيضاً ماذا كانت النتيجة؟
ألم نعد إلى عصور السلاطين؟
نحن غالبية العرب نناشدك يا تونس أن تتمسكي بتونس الدولة، بتونس المؤسسات الوطنية، بتونس التقاليد العريقة للكفاح الوطني والتحرر الوطني والاجتماعي، لأنهم يتربصون بك وبنا، نرجوك يا تونس أن تنجحي لأن جزءاً من رهاننا على المستقبل هو الرهان على نجاحك في امتحان الجدارة الوطنية والديمقراطية أيضاً.
لم يبق إلا نصف الطريق!