الموقع الجيوسياسي لافغانستان (في مفترق طرق الحضارات العظمى للعالم القديم) جعل منها مطمعا لكل الحضارات السابقة عبر التاريخ، فلم تهنأ بالامن والاستقرار سواء عبر تاريخها الماضي أو الحاضر، فكانت مركزا للصراعات منذ فجر التاريخ مع الساسانيين والفرس والإسكندر المقدوني، مرورا بالحضارة الاسلامية، ثم تعاقب دول وعهود: السامانيين والغزنويين والسلاجقة والمغول والغوريين والصفويين والأفشاريين والقاجاريين.. وصولا في العصر الحديث الى البريطانيين و»السوفييت»، ثم أخيرا الأميركيين.
ورغم كل ذلك فالتاريخ يشهد بان الافغان اعتادوا النصر في نهاية كل مرحلة، حتى وصفهم الإنجليز بـ»مقبرة الإمبراطوريات» لِما ذاقوه منهم من أمرّين في القرنين التاسع عشر والعشرين.
اليوم تضطر (سواء باتفاق أو بغير اتفاق، وبعيدا عن كل التحليلات السياسية) امبراطورية القرن المعاصر «الولايات المتحدة الامريكية» الى الانسحاب من افغانستان بعد عشرين عاما من غزوها في عهد الرئيس الامريكي الاسبق «جورج بوش الابن» وتحديدا في خريف عام 2001، إثر هجوم 11 سبتمبر/ أيلول الشهير، واعلان الرئيس «جورج بوش الابن» الحرب على «الإرهاب الدولي»، وفي مقدمته تنظيم القاعدة، وحركة طالبان.
منذ ذلك اليوم - وبحسب مصادر امريكية - انفقت الولايات المتحدة نحو (3 تريليونات دولار وخسرت نحو 7 آلاف مقاتل) وأنا هنا لست مع القائلين بأن الولايات المتحدة خسرت هذه المبالغ، لأن غزوها لافغانستان لم يكن لبناء دولة ولا لانشاء جيش، بل لغايات حققتها بصورة أو بأخرى في هذه المنطقة من العالم، وخرجت حين ارتأت ادارة الديمقراطيين وقبلهم حاول الجمهوريون ذلك في عهد ترامب، أن الانسحاب بات مصلحة امريكية.
على كل الاحوال فان قادم الايام سيكشف الصورة أكثر وضوحا حول الدور القادم لحركة طالبان والى أين ستتجه هذه الدولة المليئة بخيرات اقتصادية من المعادن ومصادر الطاقة التي تقدر بنحو تريليون دولار امريكي في حدها الادنى من ثروات «على هيئة رواسب معدنية غير مستغلة»، وثروات زراعية وحيوانية مهملة بسبب اغراق البلاد بالاستثمار في زراعة الافيون والحشيش طوال العشرين سنة الماضية حتى اصبحت افغانستان أكبر منتج للافيون في العالم، ووفقا لقاعدة «الاقربون أولى..» فقد ساعد ذلك على تحويل عشرات الملايين من الشباب في افغانستان والباكستان وايران الى مدمنين على الافيون والحشيش!!.
- «الاقتصاد الافغانستاني» مرتبط بكافة اقتصادات الدول المجاورة وتحديدا الباكستان، وحتى ايران وخصوصا بالنفط، وكذلك الصين والهند، بالاضافة الى روسيا وجمهوريات تركمانستان وطاجاكستان واوزباكستان، وكل هذه الدول اليوم تعرض مساعدات اقتصادية لتعويض الفراغ الامريكي، وهناك مشاريع ضخمة معطلة بين هذه الدول وافغانستان يمكن ان يعاد طرحها مع خروج الولايات المتحدة ومن اهم تلك المشاريع الضخمة: مشروع أنابيب الغاز من روسيا عبر البحر الأسود ليصل إلى الهند من خلال أراضي تركمانستان ثم أفغانستان، وهو مشروع عملاق قد يغير خريطة الطاقة في العالم.
الاستقرار في افغانستان لا يعنيها وحدها في عالم بات قرية صغيرة، وفي دولة هي في أقصى (الشرق الاوسط الجديد) وموقعها الجيوسياسي يزيد من اهميتها السياسية والاقتصادية.
العالم يراقب كيف ستتعامل طالبان وهي في مقدمة التصنيف العالمي للارهاب الدولي مع جاراتها بمختلف دياناتها، ومع العالم، ومدى خطورة هذا التحول على امتداداتها «الداعشية» في منطقة الشرق الاوسط ؟!.. وكيف سيتداخل الاقتصاد مع السياسة في اعادة رسم واقع الشرق الأوسط الجديد من واقع ما يجري في (افغانستان شرقا.. وتونس غربا)؟.
الاردن لا يرصد التطورات في افغانستان وحسب بل يتابع المشهد حثيثا من واقع دوره المركزي القيادي في الشرق الاوسط وموقعه المتقدم في محاربة الارهاب والتطرف من خلال مبادرة «اجتماعات العقبة»، ومن هنا نقرأ الحراك السياسي المتواصل الذي تشهده العاصمة عمّان لبحث آخر التطورات والمستجدات في الملف الافغاني من خلال التشاور والتباحث مع دولة (قطر) لدورها الفاعل والمتقدم مع الملف الافغاني (زيارة نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري الشيخ محمد آل ثاني)، ومع تركيا ودورها الاقليمي سواء في الملف الافغاني أو ارتدادات الملف في العراق وسوريا، من خلال زيارة وزير الخارجية التركي (مولود أوغلو).
باختصار: فان ما يجري في افغانستان بالتأكيد يهمّ الاردن الداعي الى أمن واستقرار أفغانستان، وهو يتواصل مع جميع الأطراف ذات العلاقة، لأن «تدهورالأمور» - بعد الانسحاب الامريكي - سيشكل «زلزالا» تطال ارتداداته الاقليم والعالم.