أخر الأخبار
اتفاق أوسلو: الممر الإجباري والنتائج البائسة
اتفاق أوسلو: الممر الإجباري والنتائج البائسة

يتكرر تناول اتفاق أوسلو ليس فقط في الذكرى السنوية للتوقيع عليه منذ ثمانية وعشرين عاماً، بل وفي كل مناسبة يجري فيها انتقاد السلطة الوطنية. وفي هذه الأيام تحولت السلطة في الواقع إلى ما هو أشبه بكيس الملاكمة وتوجه لها الانتقادات والاتهامات من كل «حدب وصوب». فهل كان اتفاق «أوسلو» ممراً إجبارياً؟ وهل ما وصلنا إليه اليوم هو قدر لا فكاك منه؟ وهل بالإمكان تغيير الواقع الذي نعيش والتقدم نحو الاستقلال الوطني، الحلم الذي يراود كل فلسطيني أم أن أننا سنبقى ندور في نفس الدائرة بلا مخرج في المدى المنظور؟
ربما كان الوضع المعقد الذي عاشته منظمة التحرير قادها إلى اتفاق إعلان المبادئ المسمى اتفاق أوسلو نسبة للعاصمة التي احتضنت المفاوضات حوله، هو ما دفع القيادة الفلسطينية للذهاب إلى هذا الخيار بعد أن مرت منظمة التحرير بفترة عصيبة جداً بعد فقدانها قاعدة الارتكاز المهمة جداً في لبنان، وبعد تشتت القيادات الفلسطينية وحصول المنظمة على مركز جديد في تونس التي احتضنتها وأمنت لها ملجأً ومنحتها حرية العمل، ولكنها كانت بعيدة كثيراً عن الوطن وعن المواجهة المباشرة مع العدو. وبعد استهداف ما تبقى من القوات الفلسطينية في حرب المخيمات في لبنان، وبعد الانتفاضة المجيدة في عام 1987 التي شكلت رافعة عظيمة ومهمة للنضال الوطني وأعادت منظمة التحرير للواجهة وخاصة بعد إعلان الاستقلال وتبني مشروع السلام الفلسطيني، والحوار الأميركي – الفلسطيني وعقد مؤتمر مدريد الذي كان يراوح في المكان ولم يتقدم خطوة واحدة بأي اتجاه. ووجود حكومة إسرائيلية بقيادة اسحق رابين مستعدة للمغامرة وفحص إمكانية التوصل إلى اتفاق ما مع الفلسطينيين. وربما كان هذا أفضل الخيارات المتوفرة في ذلك الوقت. وقد يكون ممراً إجبارياً فرض على المنظمة بعد سياسة التجفيف العربية التي فرضت عليها.
لكن الذي لم يكن إجبارياً هو طريقة التفاوض التي كانت ارتجالية وغير مهنية من الجانب الفلسطيني، ومُحكمة وخبيثة من الجانب الإسرائيلي. وهذا على الأغلب تم بسبب جهل القيادة والمفاوض الفلسطيني لطبيعة العدو الذي تتعامل معه. وربما لأنها كانت مستعجلة وتتوقع أن هذه هي الطريق التي تقود حتماً إلى الاستقلال وأن تحقيق هذا الهدف قريب جداً، وبالتالي لا داعي للتدقيق كثيراً في التفاصيل التي أصبحت بعد ذلك مقتلاً للفكرة والعملية السياسية برمتها.
من المفيد العودة مرة أخرى للتذكير بأخطاء المفاوض الفلسطيني في «أوسلو» وهي ما قادت إلى المعاناة التي لا نزال نعيش فصولها اليوم وربما لوقت طويل قادم. وهنا نختصر الحديث بالتركيز على خمس قضايا؛ الأولى والأهم هي الاعتراف المتبادل غير المتكافئ، فنحن اعترفنا بحق إسرائيل في الوجود وهي لم تعترف بحقنا في تقرير المصير في دولة فلسطينية مستقلة، وفقط اعترفت بمنظمة التحرير كممثل للشعب الفلسطيني. وهذا كان خطأ فادحاً. أما القضية الثانية فهي عدم تضمين الاتفاق وقفاً شاملاً للاستيطان باعتبار أن اتفاق اوسلو من المفروض أن يقود إلى دولة فلسطينية على حدود عام 1967، واستمرار البناء الاستيطاني مناقض تماماً لهذه الفكرة. والخطأ الثالث الكبير هو القبول بتقسيم الأراضي الفلسطينية المحتلة إلى (أ) و(ب) و(ج) دون أن يعي المفاوض الفلسطيني بأنه قد جرى وضع الفلسطينيين في معازل مفصولة تماماً عن بعضها البعض ويتحكم الإسرائيلي فيها بشكل كامل، بهدف عزل السكان عن الأرض والسيطرة عليها. وكان يجب الحفاظ على تواصل إقليمي بين مناطق سيطرة السلطة ليس فقط في الضفة الغربية بل وبين الضفة وقطاع غزة. والمسألة الرابعة في سلسلة الأخطاء هي قضية القدس المحتلة التي لم يتم التفصيل في معالجتها بحيث توضع قيود جدية على سياسة إسرائيل التهويدية ضدها، وبحيث تحدد تفاصيل الوضع القائم فيها لجهة عدم تغييره. وأخيراً نسي المفاوض الفلسطيني قضية الأسرى ولم يتم تضمينها كبند أول في الاتفاق، باعتبار أن تبادل الأسرى أو الإفراج عن الأسرى في حالتنا يسبق تطبيق بنود وقف إطلاق النار أو أي اتفاق سلام بين متحاربين. وطبعاً هناك أمور أخرى يمكن تناولها في هذا السياق ومنها بروتوكول «باريس» الاقتصادي وغيره.
غير أنه من الجانب الآخر الإيجابي ساهم الاتفاق في عودة عشرات الآلاف من الفلسطينيين من الخارج والإفراج عن آلاف الأسرى والمعتقلين. وشكل فرصة جدية للفلسطينيين لإثبات قدراتهم في حكم أنفسهم وفي بناء مؤسساتهم الخاصة التي يديرون من خلالها حياتهم، والتي ستتحول إلى مؤسسات دولة فلسطين العتيدة المستقلة. وحصل تقدم في إدارة الوضع الداخلي بعد انشاء الوزارات والسلطات والأجهزة المختلفة، وأصبحت السلطة الفلسطينية أشبه بدولة فعلية وأضحت تسيطر بطريقة معقولة على المعابر الحدودية، وتم افتتاح الممر الآمن بين الضفة وغزة، وبات التنقل بين مختلف المناطق الفلسطينية أمراً يسيراً. وحصلت دولة فلسطين تحت الاحتلال على شرعية دولية مهمة وصولاً إلى الاعتراف بها كدولة «غير عضو» أو مراقب في الجمعية العامة للأمم المتحدة.
ولم يضع الاتفاق قيوداً على اختيار الأشخاص المناسبين في الأماكن المناسبة، أو في قيام نظام حكم ديمقراطي وشفاف ومستقيم ونزيه وخال من الفساد والمحسوبيات وسوء الإدارة حتى لو كان تحت الاحتلال من الناحية الفعلية. ولكن السلطة بُنيت على أخطاء قاتلة ولم تراع الأسس التي من شأنها أن تبني دولة حضارية محترمة ومورست فيها كل الأخطاء بدءاً من التعيينات وانتهاء بكل التفاصيل. وكانت الكارثة الكبرى في السماح بالفوضى المسلحة في الانتفاضة الثانية التي قادتنا للخلف عشرات السنين ودمرت الكثير من الانجازات ولا نزال نعاني من آثارها، والتي يعتبر انقلاب «حماس» والانقسام هو أخطرها وأكثرها تدميراً للحلم الوطني. ووصلنا إلى وضع ونتائج بائسة وسلطة منقسمة وشبه محطمة.
مع كل الأخطاء والخطايا التي واكبت اتفاق أوسلو وبناء وأداء السلطة، لا تزال السلطة الوطنية إنجازاً مهماً يجب إعادة بنائه وتطويره على طريق بناء مؤسسات دولة فلسطين، وهذا لن يتم بدون مصالحة وطنية ووحدة شاملة وإدارة سليمة خاضعة لرقابة الشعب وسلطته المعبر عنها في مؤسسات منظمة التحرير ومؤسسات السلطة نفسها. وللأسف لا نزال بعيدين عن هذا، ولكن لم يفت الأوان بعد لإعادة الأمور إلى نصابها، ليس بالتدمير بل بالبناء والإصلاح.