فتح قرار اللجنة العليا للانتخابات في مصر بتمديد التصويت ليوم آخر (ثالث)، الباب على مصراعيه لمناقشة حال العزوف التي بدأت تفرض نفسها على المشهد العربي، وخصوصاً بعد ثورات ما وُصف تَسرّعاً او خُبثاً بالربيع العربي، اثر «اكتشاف» الجماهير ان «سادتكم في الجاهلية... سادتكم في الاسلام» وأن الفرق يكمن في الاسماء والملامح، بلحية ام بغيرها، و»الأزياء» سواء كانت عسكرية ام مدنية، فيما «العقلية» ذاتها والثقافة نفسها، ثقافة الاستبداد والفساد والاستعلاء، تكاد تتساوى، اللهم إلاّ في الرطانة والشعار والخطاب الذي كان في عهد مبارك مثلاً... بليداً، وفي عهد بن علي... مُزجّجاً وشمعياً، فيما هو عند من «خلفوهما» يغرف من «لغة» الجماهير وهتافاتهم، لكن عينه على العهد البائد، يستمد منها أسباب البقاء، والمقاربات وربما الارتكابات ذاتها، وإن بتنويع على النص (الذي هو نص سُلطوي واحد) كما رأينا راشد الغنوشي في تونس وخصوصاً محمد مرسي في مصر، ولم يختلف الحال كثيراً في ليبيا، ناهيك عما يقارفه الارهابيون والتكفيريون والقتلة الجوالون في سوريا والعراق واليمن.
السلطة في مصر تبحث عن «اصوات»، من جمهور فترت حماسته بعد ان لم ير اختلافاً كبيراً في «الجوهر» فأدار ظهره ولم يعد هو نفسه صاحب الموجة الثورية العظيمة في 30 حزيران الماضي، عندما خرجت جموع المصريين تقول: «لا» لحكم الاخوان، بعد ان انكشف خطابهم على حقيقته في اقل من عام، وبدوا وكأنهم نسخة اخرى – ولكن اكثر رداءة – من حكم مبارك، الذي تزاوجت فيه السلطة مع رأس المال، فأنتجت الفساد والاستبداد وفقّرت الجمهور وأفلست البلاد وفقدت هيبتها وسيادتها والاحترام.. وما ان اختطف الاخوان الثورة، سواء ثورة 25 يناير المصرية ام الثورة «الأم» التي فَجّرت ينابيع الغضب الشعبي العربي ونقصد هنا تونس، حتى بدأت الناس تتساءل عما اذا كان «هؤلاء» هم الذين انتظروهم، ليحلوا مكان العصابات الفاسدة والعميلة للغرب الاستعماري، كي يأخذوا البلاد الى طريق الحرية والعدالة الاجتماعية ويوفروا لعباد الله رغيف الخبز وفرصة العمل والطبابة، والخدمات في حدها الادنى، بعد ان انهارت تماماً، وغدا الفقر والبطالة والمرض والأميّة «وباء» يفتك بالعرب، فيما ثروات الحُكّام وارصدة الازلام ووعاظ السلاطين والعسعس واجهزة القمع والتنكيل والقتل... تتضخم..
كأن شيئاً لم يكن، بل إن المرارات ازدادت والغضب في تصاعد وخطاب الانظمة العربية لا يُقنع احدا، والازمات وصلت ذروتها، ولم تنهض الاحزاب، جديدها والقديم، بأي دور او تتصرف بمسؤولية، بل بقيت كما كانت حالها قبل «الربيع» مُتكلّسة وجامدة، لا تعرف الديمقراطية ولا تأخذ المراجعة او النقد الذاتي او حتى استخلاص الدروس والعبر من ابتعاد الجماهير وعزوفها عن الالتحاق بصفوفها او الاقتراب منها... طريقها الى النور، ولم تتقدم خطوة الى الأمام، حتى بعد ان تم «الاعتراف» السُلطوي الذكي (حتى لا نقول الخبيث) بعلنية العمل الحزبي بل والاستعداد لتمويل الاحزاب ورفد ميزانياتها الصفرية، كديكور ديمقراطي، اكثر منه رغبة بتطوير العمل الحزبي واطلاقه وتكريسه نهجاً تنافسياً يدفع بالحياة السياسية قدماً، ويُسهم في اثارة اهتمام الجمهور، وحماسته والارتقاء بقدرته على التمييز والاختيار بين القوائم الحزبية المتنافسة، وليس أدل على ذلك من تَخلّف قوانين الاحزاب والانتخاب وتفصيلها على مقاسات وقراءات سلطوية محسوبة بدقة وايقاع بطيء، يراد منه الإبقاء على العملين الحزبي والبرلماني في اطار الضعف والتبعية للأنظمة ودائماً في دائرة اللامبالاة الجماهيرية، التي لم تعد في أغلبيتها ترى في الاحزاب او الحزبية طريقاً للارتقاء بالحياة السياسية، وفرصة متجددة لتعميق الديمقراطية ونشر ثقافتها وجعل المنافسة السلمية المستندة الى برامج وانحيازات سياسية واجتماعية واضحة، هي الطريق للمشاركة الشعبية وإخراج البلاد العربية من حال الركود والفساد و»العطالة» السياسية والعجز السلطوي «المُقيم» على اكثر من صعيد..
تمديد الانتخابات لساعات او ليوم آخر، لن يُقدّم كثيراً أو يُسهم في إبعاد انظار المراقبين عن حال العزوف التي تستبد بالجمهور العربي سواء في مصر ام في غير مصر، وهذا بدوره يطرح المزيد من الاسئلة عن مدى «شرعية» هذا الحزب الحاكم او ذاك «الرئيس» الذي «استدعاه» الشعب لانقاذه، فصدع لأمره وهرع لنجدته.
آن الأوان، لأن تُدرك الانظمة العربية، ان استمرارها في لعبة تغيير او تبديل الاقنعة، واستخدام المزيد من عمليات إخفاء قبائح الثقافة الأبوية والبطريركية التي تمارسها، انظمة او رموز ما بعد «ثورات» الربيع العربي أو قبلها، لن تخدع المزيد من الجمهور العربي، الذي وان كانت قدرته على الثورة قد تراجعت، بفعل إحباطه وخيبة أمله، الا ان عزوفه اللافت، عن «ديمقراطية الصناديق» هو الجواب وكأني به تصويت بالأرجل والقبضات.. فهل هناك من يتعظ؟