عندما يحكم الديكتاتور بلده بطريقة مزاجية متقلبة بدون دستور مكتوب واضح وملزم
يقّيده إذا استبد وبدون برلمان حقيقي يصوبّه إذا أخطئ , وبدون معارضة فاعلة تستطيع
عزله إذا تجاوز حده وأصبح حكمه مطلقاً , فإن ذلك الحكم يصبح حكم الفوضى الذي يستبد
فيه الحاكم ويتميز حكمه بالفوضى المحكومة بمزاج الديكتاتور . وعندما يغيب هذا
الحاكم الديكتاتور عن الحكم بالموت أو القتل أو الخلع بعد أن يكون قد دمّر مؤسسات
الحكم السليمة وقضى على كل الرجال الذين قد يشكلون بدائل له يصبح الشعب في ( حيص
بيص ) ولا يستطيع بناء مؤسسات للحكم تحل محل المؤسسات السابقة المرتبطة بالديكتاتور
, ولا تستطيع النخبة السياسية إدارة الاختلاف فيما بينها والتوافق على نقاط اتفاق
تنطلق منها لبناء الدولة الجديدة , وتعتز كل جماعة برأيها وتتمسك بمصالحها الخاصة ,
ويصبح كل حزب بما لديهم فرحون ... فإن ذلك يعني أن هذا البلد يعيش فوضى الحكم .
وهذا ينطبق بالفعل علي ليبيا التي عاشت في عهد العقيد معمر
القذافي حكم الفوضى , وتعيش بعده فوضى الحكم , وما يحدث في ليبيا الآن من اقتتال
داخلي خير دليل على ذلك في ظل تفكك الدولة الليبية , وتحلل أجهزة ومؤسسات الحكم ,
وسيطرة عشرات الجماعات المسلحة على الشارع الليبي , ولمعرفة جذور ما يحدث الآن في
ليبيا لا بد من العودة إلى تاريخ العهد البائد لنظام القذافي الذي سيطر على ليبيا
في غفلة من الزمن ولأنه هو المنتصر على النظام الملكي السابق لعهده ولأن المنتصر هو
الذي يكتب التاريخ فقد كتب تاريخهم باللون الأسود ليعطي لنظامه بريقاً زائفاً
باللون الأخضر , وليصنع لنفسه هالة من الزعامة الوهمية الخاوية .
بدأ التزوير في تاريخ ليبيا المعاصر منذ أن قاد الملازم معمر القذافي
انقلاباً وسماه ( ثورة ) في الأول من سبتمبر عام 1969 ضد الملك محمد إدريس السنوسي
أثناء وجوده خارج ليبيا وأطاح بنظام الحكم الملكي للأسرة السنوسية التي كان لها
دوراً كبيراً في قيادة الجهاد ضد الاحتلال الايطالي لليبيا وتوحيد أقاليم ليبيا
الثلاثة – برقة وطرابلس وفزان – رغم أنها أبقت على قواعد عسكرية للحلفاء المنتصرين
في الحرب العالمية الثانية في ليبيا , وأبقت على بعض التجمعات الاستيطانية
الإيطالية في ليبيا , وكان للحلفاء نفوذاً سياسياً ما في ليبيا مما ساعد القذافي
على اتهامهم بالعمالة والرجعية والفساد . وهذا ما أعطى شرعية لحكم القذافي عندما
استفاد من المد الثوري للناصرية المتلبسة بثوب القومية العربية في مرحلة تراجع
الاستعمار الأوروبي فأغلق القواعد العسكرية الغربية في ليبيا , وطرد ما تبقى من
المستوطنين الايطاليين من الشمال الليبي , وزاد من حصة ليبيا من أرباح النفط الذي
تنتجه الشركات الغربية من الأراضي الليبية من 50 % إلى 79 % , واتخذ مواقف سياسية
معادية للصهيونية والاستعمار و ( الرجعية ) , ورفع شعارات الوحدة والحرية
والاشتراكية , وأعلن عن نظريته العالمية الثالثة في الكتاب الأخضر , وفي لحظة تجلّى
تجمع بين هوس الزعامة وجنون العظمة أطلق على ليبيا اسم ( الجماهيرية العربية
الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى ) ..
ومع مرور الزمن
تآكلت هذه المكاسب الحقيقية منها والوهمية , وتآكلت معها شرعية القذافي ونظامه بعد
أن تخلى بنفسه عن أحلام الوحدة العربية , واتجه نحو الوحدة الأفريقية , وتخلى عن
هدف مقاومة الصهيونية والاستعمار والرجعية بعد أن سلّم الجمل بما حمل من أسلحة
وبرامج تسليح بمليارات الدولارات دفعها الشعب الليبي من قوته واختار الطريق الأسهل
لحل التناقض مع الاستعمار برفع الراية البيضاء , أضافة لعشرات المليارات الأخرى
التي أنفقها على مشاريعه السياسية الفاشلة , أما عن شعار الحرية فلم يكن له وجود من
الأساس بعد أن سقط بسقوط الدماء المتدفقة من الآف ضحايا الحرية في سجون الأمن
الليبي خاصة مذبحة سجن أبو سليم , إضافة لآلاف المعتقلين والمنفيين , أما شعار
المساواة فقد تآكل هو الآخر في دولة اتخذت الاشتراكية منهجاً في الحكم بعد أن أصبحت
ليبيا إقطاعية للقذافين وأبنائه واتباعه المقربين يأخذ منها الشعب الليبي ما زاد عن
حاجتهم أسوة ببقية الدول المختلفة التي تصبح فيها خزينة الدولة ملكاً خاصاً للحاكم
وأبنائه وعائلته والمقربين أولئك المترفين .
وبعد
اندلاع ثورتي مصر وتونس وقبل أن تصل النار إلى ليبيا أدرك العقيد معمر القذافي
بحاسته السادسة التي عطلها عشرات السنين أن الدور قد يأتي عليه , فانتقد الثورة
التونسية وأعلن تضامنه مع زميله في الاستبداد وصديقه في الفساد زين العابدين بن علي
رغم عداوته السابقة له ولكن بما أن الشعوب هي العدو المشترك للحكام المستبدين فإن
عدو عدوي يصبح صديقي , وهذه القاعدة طبقها على حسني مبارك عندما اندلعت الثورة
المصرية فاتصل به – قبل سقوطه – معلناً تضامنه معه , وليرفع من روحه المعنوية
المنهارة تحت ضربات الشعب الذي استهان به طوال مرحلة حكمه ذات الثلاثة عقود ...
ولكن ذلك لم يمنع وصول الثورة إلى ليبيا بعد أن أحاطت بها نار الشعوب الثائرة من
الشرق والغرب فلم يعد مناص من اندلاع الثورة في 17 فبراير 2011 بعد إشعال فتيلها
باعتقال محامي أهالي ضحايا سجن أبو سليم , ولم يمهل القذافي الثورة كثيراً عندما
تصدى لها بالقوة المسلحة الرهيبة التي يمتلكها لمثل هذا اليوم فتم عسكرة الثورة
وتدخل حلف الناتو قبل أن يجهز القذافي على معقل الثورة في بنغازي فتنقلب الأمور
تدريجيا حتى يسقط حكم القذافي بمقتله في 20 ديسمبر 2011 .
بسقوط حكم القذافي أو حكم الفوضى انتقلت الحالة السياسية لليبيا إلى فوضى
الحكم بسبب فشل الليبيين في إقامة نظام سياسي بديل للنظام السابق لأسباب كامنة في
طبيعة الثورة نفسها وأهمها أنها انتصارات بفعل تدخل حلف الناتو العسكري وبالتالي
أصبحت قيادتها السياسية مرتهنة لأجندة خارجية هي صاحبة الفضل عليها فأضعف ذلك من
استقلاليتها , واختلاف أجندة الثوار ورؤاهم الفكرية والسياسية حول طبيعة الدولة بعد
القذافي التي أصبحت مختلفة بل ومتناقضة أحياناً ما بين دولة إسلامية سلفية أو دولة
إسلامية إخوانية , أو دولة ديمقراطية ليبرالية وغيرها من الرؤى , ومنهم لا هم له
إلاّ بناء دويلته الخاصة التي تخدم حزبه أو قبيلته على أي جزء من ليبيا , وآخرون
يسعون للسيطرة على أحد آبار النفط ليس إلاّ , وآخرون مسكونون بأحلام الزعامة التي
قادت ليبيا إلى الهاوية هذا مع العلم أن من شارك في الثورة فعلاً من هؤلاء الثوار
لا يزيد عن ثلاثين ألفاً بينما عدد الثوار المسجلين في سجلات الدولة ويتقاضون رواتب
منها يزيد عن الثلاثمائة ألف شخص أي أكثر بعشرة أضعاف , ولعل من أهم الأسباب الأخرى
هو عدم قدرة النخب السياسية الليبية والقوى والفعاليات المؤثرة في الشأن الليبي على
ادارة نقاط الاختلاف والوصول إلى نقاط اتفاق تجمع الليبيين تحت ظل المصلحة الوطنية
العليا للشعب الليبي , وتنحي جانباً كل المصالح الفئوية الضيقة المرتبطة بالجغرافيا
والقبلية والسياسة ... إلى غير ذلك من الأسباب التي ساهمت في تفكك الدولة وعدم
تحقيق أهداف الثورة فأصبحت ليبيا تعيش فوضى الحكم بعد أن كانت تعيش حكم الفوضى ,
والمطلوب أن تتخلص ليبيا من الفوضى السائدة في ربوعها بعد أن تخلصت من الاستبداد
وتعيد بناء مؤسسات الحكم الديمقراطي المستقر وفق عقيدة الشعب الليبي .