لا تُعدّ سورية استثناءً لاستراتيجية إدارة بايدن في الشرق الأوسط القائمة على "إطفاء الحرائق" و"إخماد الأزمات" دون حلها بالضرورة... في سورية أيضاً، ثمة رغبة أميركية في تفادي الانفجارات الكبرى، واحتواء الأزمات القائمة، حتى لا تجد نفسها منصرفةً عن أولوياتها البعيدة في المحيطين الهادي والهندي.
تدرك إدارة بايدن أن زمن المعارك الكبرى في سورية قد ولّى، وأن ثمة أطرافاً دولية (روسيا) وإقليمية (إيران وتركيا)، تلعب أدواراً أكثر أهمية من الدور الأميركي في بلاد الشام، وهي وإن كانت تفتقر حتى الآن، لرؤية شاملة لمستقبل هذه الأزمة، وأدوات فاعلة للتعامل معها، إلا أنها ورثت عن الإدارة التي سبقتها "قانون قيصر" وسلاح العقوبات، ويمكن القول إنه السلاح الأمضى في يدها، حتى لا نقول سلاحها الوحيد.
رسمياً، تُعرّف واشنطن مصالحها في سورية في ثلاث: الحرب على الإرهاب، حماية الجيب الكردي في الشمال الشرقي للبلاد، وعملية سياسية تؤمّن لأصدقاء واشنطن وحلفائها، بعضاً من كعكة السلطة في إطار حل نهائي لهذه الأزمة الممتدة لأزيد من عشرة أعوام.
عملياً، ثمة هدف رابع، تبوح به الإدارة بين الحين والآخر: الاستمرار في استنزاف دمشق وطهران وموسكو، بأدوات عديدة، منها تسليح الوحدات العسكرية الكردية "قسد" حيناً، وترك أمر مطاردة داعش لهذه الأطراف، طالما أنها لا تشكل خطراً على الوجود الأميركي والحاضنة الكردية غرب الفرات...هنا أيضاً، تمكن الإشارة إلى سعي واشنطن لعرقلة "الممر الإيراني" الواصل بين طهران وشرق المتوسط، عبر العراق وسورية، بوصفه هدفاً من أهداف السياسة الأميركية (اقرأ الإسرائيلية)، أقله في المرحلة الممتدة حتى إحياء اتفاق فيينا النووي مع إيران.
منذ زمن، لم تعد واشنطن تتحدث عن "تغيير النظام" في سورية، بل لا يكف موفدوها عن نفي نية بلادهم قلب نظام بشار الأسد، هم يتحدثون عن "تغيير سياساته"، ومؤخراً تكرست هذه القناعة بعد "الدرس الأفغاني" وباتت جزءاً من "مبدأ بايدن" في السياسة الخارجية.
ومنذ زمن أيضاً، بدا أن واشنطن بصدد رفع يدها عن سورية، حتى أن الرئيس السابق دونالد ترامب حاول مراراً إقناع المستوى العسكري والأمني بسحب كافة القوات الأميركية من شمال سورية، وحين حلّ بايدن محله في البيت الأبيض، لم يتقدم خطوة واحدة على طريق بلورة رؤية وخريطة طريق للحل السياسي لسورية، فكانت النتيجة: لا حل عسكرياً في سورية، ولا سياسياً كذلك.
ولعل هذا ما أدركه العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني تمام الإدراك، وهو يحضّر أوراقه وملفاته، للقاء جو بايدن كأول زعيم عربي يجتمع به بعد توليه سدة البيت الأبيض... لكن بخلاف مضيفه، لا يمتلك ملك الأردن ترف الجلوس على مقاعد النظّار والمتفرجين، فبلاده تعتصرها أزمة اقتصادية خانقة، والأزمة السورية بتداعياتها المعروفة، هي أحد أسباب هذه الأزمة، ومن البوابة السورية ذاتها، يمكن الشروع في تفكيكها والتخفيف من وطأتها.
ولا شك أن الملك وفريقه، كانا يرقبان عن كثب وبمزيد من القلق، تداعيات الانهيار السياسي والاقتصادي والمالي والاجتماعي في لبنان، ولا شك أنهما أدركا منذ البدء، أن حلاً للأزمة السورية، لن يتحقق في ظل بقاء الحال في سورية على حاله... المنطقة لا تمتلك ترف الانتظار إلى ما لا نهاية، تماماً مثل الشعب السوري، الذي يكتوي بنار العقوبات والجائحتين الصحية والاقتصادية، ولا يمكن القبول باستمرار معاناته إلى ما شاء الله، ومن دون أن تلوح أي بارقة أمل في نهاية نفق الأزمة المظلم.
في هذا السياق، جرى طرح "المقاربة الأردنية الجديدة" حيال سورية، ويبدو أن الملك بمحاججاته النابعة من "واقع الحال"، نجح إلى "حدٍ ما" في استحداث شروخ في جدران الكرة الأميركية المصمتة.. وإذا كان من الصعب القول إن العاهل الأردني عاد إلى عمان بضوء أخضر أميركي لترجمة مبادرته الانفتاحية على سورية، إلا أن أحداً في واشنطن لم يشهر في وجهه "راية حمراء"... ربما يكون الملك قد عاد بـ"ضوء برتقالي" من زيارته الأهم للولايات المتحدة، ويمكن فهم ما المقصود بذلك، من قراءة البيانات الأميركية المرتبكة، بل والمتناقضة حول استئناف الخطوط الجوية الأردنية رحلاتها إلى دمشق، والتي راوحت ما بين الترحيب الفوري، والتحفظ و"إخضاع المسألة للمراجعة والدراسة" في اليوم التالي.
في سعيه لانتزاع زمام المبادرة في سورية وحولها، بدا العاهل الأردني مطمئناً للتطورات الحاصلة في البيئة الإقليمية والدولية من حوله... لا أحد جدياً في هذا العالم، يُشهر مطلب "إسقاط النظام"... وباستثناء قطر، فإن معظم إن لم نقل جميع الدول العربية، منفتحة على فكرة عودة سورية للجامعة العربية، بما فيها السعودية والإمارات ودول خليجية ومغاربية أخرى... والأردن إلى جانب مصر والعراق من ضمن مشروع "الشام الجديد"، لا يمانع في إنجاز مثل هذه العودة، بل وربما يتجاوب في قادمات الأيام، مع فكرة انضمام سورية، قلب الشام، إلى مشروع "الشام الجديدة"، إن لم يكن بدوافع سياسية، فتحت ضغط "الجيوبولتيك" الذي يضع سورية في مكانة القلب من هذا المشروع، أياً كان نظام الحكم فيها.
للأردن مصالح كبرى في سورية ومعها، منها: رفع مستوى وسوية التبادل الاقتصادي والتجاري والسياحي مع سورية وعبرها لجوارها... ملف المياه وحوض اليرموك المشترك... ملف الحرب على الإرهاب... حاجة الأردن لإبعاد الميليشيات المقربة من إيران عن حدوده... الحرب على المخدرات، التي تشهد تجارتها وعمليات تهريبها تزايداً ملحوظاً على حدوده الشمالية... ملفات الطاقة والغاز المصري والربط الكهربائي الذي يوفر للأردن فرصة لتسويق فائض انتاجه منها إلى لبنان، وربما إلى سورية.
لكن الأردن، وهو يسعى في تفكيك عُقَد قانون "قيصر" الأميركي، لم يغب عن باله أن ثمة "قيصراً" آخر يتعين التعامل معه، يسكن الكرملين هذه المرة، وليس البيت الأبيض، وهذا ما يفسر الزيارة – من خارج جدول الأعمال – التي قام بها الملك إلى موسكو ولقاءاته فلاديمير بوتين، فهذه المنظومة من المصالح الأردنية، لا يمكن تحقيقها والسهر عليها، من دون تعاون لصيق مع روسيا، وهذا ما دللت عليه أحداث درعا الأخيرة، وعودة المحافظة برمتها لسلطة الدولة السورية، وبتدخل روسي هو الأرفع مستوى منذ العام 2015 (نائب وزير الدفاع الروسي أشرف شخصياً على إغلاق ملف درعا)، طالما أن مشروع نقل الغاز المصري واستجرار الكهرباء الأردنية سيمر حكماً بهذه المحافظة السورية.
في مثل هذه البيئة الإقليمية والدولية، وجدت الدبلوماسية نفسها قادرة على القيام بدور ريادي مبادر في الأزمة السورية، سيما وأن عمان، بخلاف عواصم عربية وإقليمية أخرى، لم تقطع مع دمشق، وحافظت على ما هو أكثر من "شعرة معاوية" معها، وهي حتى حين كانت غرفة عمليات "الموك" كانت الأقل اندفاعاً وحماسة لشعار تغيير النظام، من منطلق أن كثيراً من معارضي الأسد، أسوأ منه بكثير، وأشد خطر على مستقبل الأمن والاستقرار في الأردن والمنطقة، ولعل هذا ما يفسر التجاوب السوري السريع مع المقاربة الأردنية، وتحول عمّان إلى قبلة للحجيج السوري رفيع المستوى.
المقاربة الأردنية الجديدة حيال سورية، لا شك أنها ستصطدم بحضور كثيف ووازن للاعبين إقليميين آخرين في سورية: إيران وتركيا... عمان تراهن على موسكو في احتواء أي تدخل إيراني ضار على خط علاقاتها مع دمشق، والأخيرة، تملك هامشاً للمناورة بين موسكو وطهران... أما تركيا، فإن نفوذها في سورية (وعموم الإقليم) في تراجع، وسقف رهاناتها وتوقعاتها في انخفاض مستمر... وبوجود قنوات حوار خلفية، وإن ذات طبيعة أمنية، بين كل من الرياض وطهران، وأنقرة ودمشق، وأنقرة وكل من القاهرة والرياض، ومع بقاء مسار فيينا النووي حياً، فإن عمّان، تراهن على أن قادمات الأيام، قد تكون محمّلة بأنباء جيّدة، تحيط بمقاربتها الجديدة وتعظم فرص نجاحها.