صدمة المنطقة من سلوك الإدارة الأمريكية بعد الخروج غير المنسق من أفغانستان وتراجع اهتمام واشنطن بالشرق الأوسط مقابل الاستدارة شبه الكاملة تجاه آسيا أيقظت مخاوف العديد من دول المنطقة وتراجع ثقتها في السياسة الأمريكية أحادية الجانب، وهذا ما انعكس على التوجهات الإقليمية الحالية.
السلوك الأمريكي عزز الطرح الذي يدفع تجاه تصفير المشاكل والأعداء، وخلق حالة جديدة تستند إلى مبدأ تعظيم القواسم وقبول الاختلافات السياسية بهدف التماهي مع متطلبات المرحلة، وذلك من خلال إعادة التشبيك الاقتصادي والاستثماري بشكل يعيد رسم العلاقات البينية ويضمن تقليل الصراعات والاختلافات إلى الحد الأدنى.
أردنياً وبما أن عمّان الرسمية نجحت خلال الفترة الماضية في موازنة علاقاتها الإقليمية، واستطاعت الخروج من المرحلة الصعبة التي اتسمت بالتكتل والاصطفاف دون خسارة واضحة في علاقاتها الإقليمية فمن الأوْلَى أن تكون من أكثر المستفيدين من مرحلة تعزيز الروابط الاقتصادية والاستثمارية.
فترة الهدوء السياسي والتركيز على الاقتصاد فرصة أمام الأردن لتعزيز استفادته من المتغيرات الإقليمية عبر استقطاب الاستثمارات ورفع التبادلات التجارية وعمليات إعادة الإعمار، وهذه جميعها تتطلب بيئة تنافسية وعقلية ابتكارية للترويج للمزايا التي يتمتع بها الأردن وذلك عبر طواقم قادرة على الترويج الفعال ومعالجة المعيقات التي تواجه المستثمرين، وفي ذات الوقت فتح قنوات التصدير للمنتجات الأردنية.
ما يجري في المنطقة لا ينحصر فقط بالتغيرات السياسة بل بالتوجهات الاقتصادية، وهذا ما يستلزم الخروج من الزاوية التقليدية التي ما زالت تتعامل مع خريطتنا الاقتصادية بذات مفاهيم الثمانينات والتسعينات، فما نحتاجه فعلياً خريطة جديدة تراعي المستجدات ولغة العصر ومتطلبات المستثمرين والمستوردين، ودون ذلك سنبقى في ذات الدائرة الضيقة التي وضعنا أنفسنا فيها منذ فترة طويلة.
الحديث الدائر حالياً عن تعديل وزاري قد يكون فرصة محلية لإعادة ترتيب أولوياتنا، فمشاكلنا تتمحور في الاقتصاد وتحقيق نسب نمو قادرة على توليد فرص عمل وتحريك عجلة الاقتصاد بشكل يمكن الدولة من مواجهة ارتفاع المديونية، ويخفف من الأعباء المتزايدة على المواطنين، وهذا كله يحتاج إلى فكر جديد ورؤية تدمج بين ما نملكه من إمكانيات وبين التوجهات الاقتصادية الحالية ومتطلبات المستثمرين وأسواق التصدير.
اليوم نحن بحاجة إلى طاقم اقتصادي يدرك تماماً التغيرات التي تحدث بالمنطقة، ويسعى لتعزيز استفادتنا من هذه المتغيرات، ويبني على ما تم التأسيس له خلال السنوات الخمس الماضية، فكما تمكنت عمان من المشي على حبل رفيع والخروج دون أضرار جسيمة في علاقاتها السياسية، لا بُد من جني ثمار هذه السياسة عبر الاستفادة الاقتصادية بالقدر الأكبر، فالمرحلة الحالية قد لا تتكرر والمتابع لما يجري يلاحظ أن العديد من الدول تحاول اقتناص الفرصة وتعزيز استفادتها من تبدل المزاج الإقليمي.
الحكومة في هذه المرحلة امام تحدٍ جذري فنسب البطالة غير مسبوقة وآثار جائحة كورونا أرهقت الناس ووصلت بهم إلى مستويات غير محتملة، وهذا ما ترتب عليه حالة من التشاؤم والنظرة السلبية إزاء أي توجه حكومي، وترك الأمور على هذا الحال قد توصلنا إلى مسارات صعبة، لذلك علينا أن نعيد حساباتنا ونضع الاقتصاد في المقدمة لا عبر التصريحات والاستراتيجيات الورقية بل من خلال ثورة فعلية في مفهوم العمل الاقتصادي الحكومي، باختصار ما نحتاجه في هذه المرحلة حكومة اقتصادية بكل معنى الكلمة بأدوات جديدة وفكر جديد بعيداً عن «التدوير» الذي لم ولن يأتي بجديد.